فى ظل غياب إحصاءات ليبيا عن تقارير التنمية الدولية بحكم ما تمر به من عدم استقرار أمنى وسياسى، وعدم انتظام بيانات الجزائر التى اختفت من مؤشر المعرفة العالمى فى عام (2024)، تبقى ثلاث دول عربية ممثلة للشمال الأفريقى هى مصر وتونس والمغرب. وهى دول تتسم بوفرة رأس مالها البشرى، والتنوع النسبى لأنشطتها الاقتصادية، وموقعها الجغرافى المتميز المطل على البحر الأبيض المتوسط المواجه للقارة الأوروبية التى تحصد دولها رأس قائمة أفضل أداء عالمى فى مجالى المعرفة والابتكار. كما تتمتع هذه الدول بعلاقات وروابط تنموية تفضيلية مع دول الاتحاد الأوروبى، وانفتاح على الحضارة الغربية. وبفضل هذه المعطيات كان من المتوقع تحقيقها لمراكز عالمية أفضل تقع ضمن الخمسين دولة الأولى على مستوى التحول المعرفى والتنمية التكنولوجية ومعدلات البحث العلمى والابتكار. بيد أن النتائج التحليلية المقارنة لمؤشرات التنمية المعرفية خلال ربع القرن الحالى كانت مخيبة للآمال إلى حد كبير. فبرغم التقدم المحدود لهذه الدول فى الترتيب العام للأدلة العالمية للمعرفة والابتكار، فما زالت تحتاج إلى تبنى استراتيجيات أكثر تطورًا للبحث والتطوير، ورسم السياسات التى من شأنها الارتقاء بالأداء الابتكارى والمعرفى الراهن. إذ تشير النتائج إلى احتلال تونس ومصر والمغرب الترتيب (82، 90، 98) على التوالى من (141) اقتصادًا ممثلًا بدليل المعرفة العالمى. كما كان ترتيب الدول الثلاث (9، 11، 13) بمنطقة شمال أفريقيا وغرب آسيا، والمرتبة (6، 8، 10) على مستوى الدول العربية الممثلة بدليل المعرفة. وبالنظر إلى قيم مؤشر المعرفة، سجلت الدول الثلاث معدلات تقدر بنحو (45، 44، 43) فى المائة على التوالى، وهو ما يقل عن المتوسط العالمى الذى كان فى حدود (48) فى المائة فى عام (2024). وبرغم التشابه فى عدد من نقاط القوة التى يمكن الارتكاز عليها من أجل التطوير، والتحديات التى يتعين مواجهتها لإحداث التغير المعرفى المرغوب، فإن هناك بعض السمات الخاصة لكل من هذه الدول سنتناولها بالتحليل فيما يلى. أولًا: برغم حصد «تونس» للمرتبة (82) عالميًا على مستوى المؤشر المركب للمعرفة وبفارق يصل إلى ثمانى مراكز عن مصر وستة عشر مركزًا عن المغرب، فقد احتلت الترتيب المتأخر (104) على صعيد التعليم العالى، والمرتبة (90) فى مجال الاقتصاد الداعم للمعرفة، والدولة (86) عالميًا على مستوى تكنولوجيا المعلومات والاتصالات والبيئات التمكينية للمعرفة. ويعود ذلك بشكل عام إلى وجود أوجه للقصور على مستوى أداء منظومة التعليم والبحث العلمى ومبادرات الابتكار من ناحية، وتقنيات المعلومات والاتصالات من ناحية أخرى. ثانيًا: فيما يخص التعليم قبل الجامعى العام والمهنى، لم تحقق تونس التقدم المطلوب فى مؤشرات معدل الالتحاق بالتعليم المبكر (المرتبة 81)، ومعدل إتمام المرحلة العليا من التعليم الثانوى (الترتيب 107)، ومؤشرات التدريب المستمر وصقل المهارات (الدولة 118)، ونسبة العمال المهرة بالتعليم المهنى (المركز 117)، ومعدلات بطالة خريجى التعليم التقنى (الترتيب 104). وعلى مستوى التعليم العالى وعلاقته بأسواق العمل، احتلت تونس المرتبة (104) فى مجال التنوع والحريات الأكاديمية، والمرتبة المتأخرة (137) فى نسب البطالة فى أوساط الحاصلين على تعليم متقدم، والمركز (104) عالميًا على صعيد التعاون بين الجامعات وشركات الإنتاج فى مجال البحث العلمى فى عام (2024). فى ظل ما سبق، تحتاج تونس إلى مراجعة الاختلالات الهيكلية بمنظومتها التعليمية واتخاذ السياسات الملائمة بشأنها. ثالثًا: على صعيد الدور المعرفى للبحث والتطوير والابتكار، لم تحقق «تونس» الأداء المرغوب نتيجة لتواضع نسبة الشركات الإنتاجية التى تُنفق على البحث والتطوير (المرتبة 81)، وموقفها من تنمية التحالفات المؤسسية من أجل الابتكار (Clusters for Innovation) التى حصدت من خلالها المرتبة المتأخرة (110) عالميًا فى عام (2024). وأخيرًا، كان ترتيب تونس فى نسبة شركات الأعمال المنتجة لسلع وخدمات جديدة ومعدلات نمو الشركات النشطة فى مجال الابتكار (93، 126) عالميًا على التوالى. وهى مؤشرات ترتبط معظمها بالاستراتيجية الوطنية للابتكار. كما تُظهر النتائج بعض أوجه القصور فى مجال تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، من أهمها حجم الاستثمارات فى خدمات الاتصالات (المرتبة 100)، والتنافسية فى قطاعى الإنترنت والهاتف (المركز 110)، ومعدلات التجارة فى الخدمات القابلة للتسليم رقميًا (الدولة 123) عالميًا. يضاف إلى ما سبق ضعف البيئات التمكينية للتحول المعرفى، ومن أهمها نسبة مشاركة الإناث للذكور فى قوة العمل الوطنية (الترتيب 133)، ومؤشر السلام والاستقرار السياسى (المرتبة 105). ورغم هذا التواضع فى الأداء، فإن «تونس» تملك نقاطًا للقوة فى منظومتها المعرفية يمكن البناء عليها. فقد حققت تونس المرتبة الأولى عالميًا فى مجال الإنفاق الحكومى على التعليم الثانوى، ونصيب الطالب من الإنفاق الحكومى على التعليم قبل الجامعى. فضلًا عن تحقيق مرتبة متقدمة بنسبة المدارس الثانوية التى يتوافر بها حواسيب، ونسبة الطلاب الملتحقين بالتعليم ما بعد الثانوى فى برامج مهنية، والمرتبة السابعة عالميًا فى نسبة الباحثين فى التعليم العالى، والمركز الثانى عالميًا فى كل من نسبة الخريجين من برامج العلوم والتكنولوجيا والهندسة، ونسبة الحاصلين على تعليم عالٍ فى مجال تكنولوجيا المعلومات والاتصالات. وللحديث بقية.