تثبت عبارة «الممنوع مرغوب» دوما صحتها، فكلما كان الشىء أو المعلومة بعيدة المنال كلما زاد الفضول والرغبة فى اكتشافها، وهو ما ينطبق بشكل كبير على ما يحدث مع كتاب Careless People: A Cautionary Tale of Power، Greed، and Lost Idealism «أشخاص مهملون: قصة تحذيرية عن السلطة والجشع والمثالية المفقودة» لسارة وين وليامز المديرة السابقة للسياسة العامة العالمية فى فيس بوك «ميتا حاليا»، والذى أصبح يحتل المركز الثالث للأسبوع الثانى فى قائمة الأكثر مبيعا لصحيفة نيويورك تايمز، والمرتبة الخامسة فى قائمة أمازون وذلك بعد أن تقدمت شركة ميتا بطلب تحكيم طارئ للحصول على أمر بوقف بيع الكتاب والترويج له. فى الظروف العادية يبدأ الترويج لأى كتاب قبل أشهر من صدوره، ثم يتم توزيع نسخ على الصحفيين المعنيين بالشأن الثقافى مع وجود اتفاقات خاصة لنشر مقتطفات من الكتاب مع بعض المطبوعات، لكن أى من ذلك لم يحدث مع كتاب Careless People الذى لم تعلن دار «بان ماكميلان» عن صدروه إلا قبل أسبوع واحد فحسب من نشره، وهو ما يثير التكهنات بأن حالة السرية المفروضة على الكتاب كانت مقصودة تجنبا لأى محاولات لوقف النشر، وهو ما يفسر لجوء «ميتا» إلى التحكيم الطارئ كبديل عن الإجراءات القضائية التى تستغرق وقتا طويلا للوصول إلى حكم بوقف كتاب «أشخاص مهملون»، حيث زعمت أنه يحتوى على مزيج من ادعاءات قديمة ومُعلنة سابقًا حول الشركة واتهامات كاذبة بحق مسؤولى ميتا التنفيذيين، وأن مؤلفة الكتاب سارة وين وليامز -والتى كانت تعمل سابقا فى الشركة- انتهكت اتفاقية عدم الإفصاح التى وقعتها عندما غادرت فيس بوك عام 2018. نجاح «ميتا» فى الحصول على أمر المحكمة لم يأت بنتائج عكسية وزيادة الرغبة فى الاطلاع على الكتاب الذى لا يريد مارك زوكربيرج للناس أن تقرأه فحسب، لكنه أيضا دفع أعضاء فى الكونجرس الأمريكى، وبرلمان المملكة المتحدة، وبرلمان الاتحاد الأوروبى إلى طلب الحديث مع وين ويليامز بشأن القضايا ذات الاهتمام العام التى أثارتها فى الكتاب بما فى ذلك تعاملات الشركة مع الحكومة الصينية، والأضرار المزعومة التى تُلحقها الشركة بالفتيات المراهقات، وذلك وفقا لما ورد فى بيان نشره محامى سارة وين وليامز نشرته شبكة CNN والذى أكد أن سارة لا تستطيع الحديث مع أى من هذه الجهات بسبب إجراءات التحكيم التى نجحت «ميتا» فى الحصول عليها، ولكن هذا الصخب المحيط بالكتاب لم يمنع من استمرار بيعه وفقا لدار النشر بان ماكميلان التى أصدرت بيانا يؤكد أن: «نجاح الكتاب انتصارٌ على محاولات ميتا منع نشره». انتقادات عالمية لعمالقة التكنولوجيا لم يكن الجدل الذى أثاره كتاب «أشخاص مهملون» يعود فقط إلى ما كتبته سارة وين وليامز عن الشركة التكنولوجية الشهيرة وبيئة العمل داخلها، أو حتى الأمر القضائى بمنع الترويج للكتاب الذى ظهر كما تشير business insider «فجأة»، لكن أيضا يعود إلى توقيت صدور الكتاب وسط حالة الانتقادات المتزايدة لعمالقة وادى السليكون والشركات التكنولوجية وعلاقاتها بالسلطة فى الولاياتالمتحدة خاصة مع بدء الولاية الثانية للرئيس دونالد ترامب، وعلاقة زوكربيرج التى توطدت مع الرئيس الأمريكى وما يتردد حول زياراته المتكررة للبيت الأبيض لمناقشة ضخ استثمارات فى الذكاء الاصطناعى ضمن توسيع ما يسمى بالريادة التكنولوجية الأمريكية. لا يمكن إنكار النقلة التكنولوجية التى أحدثها فيس بوك وتأثيره العالمى، لكن ذلك التطبيق الذى كان واعدا فى البداية- وفقا للكتاب- تحول من شبكة اجتماعية إلى قوة عالمية قادرة على التأثير على القرارات الفردية ونتائج الانتخابات والقرارات السياسية، واستهداف المراهقين والتأثير على رؤيتهم لأنفسهم وللآخرين، وتحقيق الربح من البيانات الخاصة لملايين الأشخاص، وهو ما تذكره الكاتبة سارة وين ويليامز وهى نيوزيلندية المولد، عملت دبلوماسية فى سفارة بلادها فى واشنطن، وقبل ذلك فى الأممالمتحدة، ولديها اهتمام بقضايا حقوق الإنسان، وخلال فترة عملها كدبلوماسية كانت تعتمد على فيس بوك للبقاء على اتصال بأصدقائها فى وطنها، وكانت تؤمن بأن هذه المنصة قادرة على تغيير العالم، خاصة بعد أن شهدت كيف حافظ فيس بوك التطبيق الناشئ وقتها على تواصل النيوزيلنديين فى أعقاب زلزال كرايستشيرش المدمر فى فبراير 2011، وسط إدراك الحكومات تأثير فيس بوك على الناس العادية، وهنا بدأ حماس سارة يزيد فى الانضمام للعمل فى فيس بوك حتى إنها هى التى عرضت العمل لصالح فيس بوك لأشهر وأنه من تزايد دور الفيس بوك وعلاقته بالحكومات فلا بد من احتياج الشركة لدبلوماسى وهو ما أقنعهم بتوظيفها وهى اللحظة التى شعرت فيها بسعادة كبيرة بعد أن أصبح بحسب وصفها «لديها فرصة العمل مع أعظم أداة سياسية». ترى سارة وين ويليامز أن سنوات وجودها فى فيس بوك شهدت تغير شخصية مارك زوكربيرج والذى وصفته بأنه «أصغر، وأكثر شحوبا، وأكثر غضبا مما كنت أتوقع»، إلى جانب أنه يسعى بشكل دائم لنيل الإعجاب والاهتمام وتحول على مدار سنوات عمله من التركيز على البرمجة والهندسة إلى السياسة، فتذكر أن أول لقاء لزوكربيرج مع رئيس دولة كان مع رئيس الوزراء الروسى، دميترى ميدفيديف، عام 2012، وقتها كان يظهر خجله لكنه تدريجيا اكتسب قدرته على مواجهة الأضواء، بل والسعى لها كما تذكر صحيفة «جارديان» البريطانية حتى إنه طلب من الرئيس الصينى شى جين بينج أن يشرفه بإطلاق اسمه على طفله القادم وهو ما لم يسايره فيه الرئيس الصينى، كما أنه كان يحرص على علاقته الودودة مع باراك أوباما الرئيس الأمريكى الأسبق حتى وبخه الأخير بشدة بسبب نشر الأخبار الكاذبة على فيس بوك. استغلال الضعف الإنسانى يقتبس كتاب «أشخاص مهملون» اسمه من رواية «جاتسبى العظيم» للكاتب الأمريكى إف سكوت فيتزجيرالد حينما كان يصف بطلى الرواية توم وديزى بأنهما يحطمان حولهما كل شيء بلا اكتراث ويتركون للآخرين مهمة تنظيف الفوضى التى تسببا بها، وذلك لأنه وفقا للكاتبة فإن فلسفة زوكربيرج وموظفى فيس بوك تقوم على استغلال الضعف الإنسانى ورغباته المتزايدة واستخدام التقنيات لتحقيق استفادة تجارية، وتجد سارة وين ويليامز أن تأثير فيس بوك فى العالم النامى كان شديد السوء، وضربت مثلا على ذلك بما حدث فى ميانمار، وهى دولة- وفقا لوصفها- تعتمد بشكل كبير على فيس بوك، وتسببت أكاذيب وخطاب الكراهية الذى انتشر على المنصة فى حدوث إبادة جماعية ضد أقلية الروهينجا العرقية. وتقول «وين ويليامز» إنها بدأت فى دق ناقوس الخطر بشأن ميانمار قبل عدة سنوات، مُحاولةً إقناع فيس بوك بتعزيز عمليات المراقبة عندما علمت بانتشار خطاب الكراهية على المنصة، لكن إدارة المحتوى كانت بطيئة جدا، لأن الشركة اعتمدت على متعاقد واحد يتحدث البورمية ومقيم فى دبلن بعيدا عن ميانمار ومقر فيس بوك فى كاليفورنيا، مؤكدة أن ميانمار والعالم كان سيكون مكانا أفضل لو لم يكن هناك وجود لفيس بوك. بيئة عمل غير آمنة تطرقت أيضا المديرة السابقة للسياسة العامة العالمية فى فيس بوك إلى بيئة العمل الضاغطة والمتطلبة داخل فيس بوك وذلك من خلال تجربتها الشخصية فى لحظة الولادة، إذ كان عليها وهى فى المستشفى وتعانى من آلام الوضع أن تكمل كتابة نقاط الحديث فى أحد الاجتماعات على جهاز الكمبيوتر الشخصى الذى وضعته على قدمها لترسلها إلى رئيستها شيريل ساندبرج مديرة العمليات والتى كانت سارة شديدة الإعجاب بما تقدمه من عمل وبقدرتها على إقناع السياسيين والقادة بأهداف فيس بوك، وذلك وسط غضب زوجها والطبيب، مشيرة إلى أن زملاءها فى العمل كانوا يشعرون بالغضب حينما يسمعون صراخ طفلها وأنه طبقا لوصفها بالنسبة لهم يجب أن تكون «الأمومة أمرا خفيا». ويبدو أن حالة افتتان سارة بمديرتها لم تدم، إذ أشارت فى عدد من المواضع إلى ما قامت به شيريل ساندبرج من دعوات خاصة غير مقبولة لها ومنها ما حدث خلال إحدى الرحلات الأوروبية والتى استغرقت 12 ساعة على متن طائرة خاصة، حيث جلست ساندبرج مرتدية بيجامة على السرير الوحيد فى الطائرة وطلبت من وين ويليامز، أن تنضم إليها فى الفراش لكن وين رفضت وهو ما أثار استياء ساندبرج. لم تكن تلك الحادثة الوحيدة التى ذكرتها «ويليامز» حول الاعتداء على مساحتها الخاصة والسلوكيات غير اللائقة، إذ ذكرت مغازلة جويل كابلان، المسؤول الحالى عن الشؤون العالمية فى ميتا لها عام 2017 واقترابه من جسدها أثناء الرقص، وحادثة أخرى تعرضت لها معه بعد إنجابها لطفلها الثانى وتعرضها لحالة طبية شديدة لكن «كابلان» استمر فى مراسلتها عبر البريد الإلكترونى أثناء إجازة رعاية الطفل مصرا على عقد لقاءات فيديو أسبوعيا، رغم إخبارها له أنها تعانى من نزيف لكنه كان يزيد من إلحاحه بسؤالها «من أين تنزفين؟»، ورغم ذلك فقد برأه التحقيق الداخلى للشركة من أى مخالفة. وادعت الكاتبة أن تلك ليست مواقف خاصة بها فحسب وأنه توجد مجموعة فى فيس بوك تُسمى نادى القتال النسوى (Feminist Fight Club)، يتشارك أعضاؤها الملاحظات حول حالات التحرش الجنسى التى كان يمارسها بعض المسؤولين التنفيذيين فى الشركة. أعادت سارة وين وليامز أيضا ما أثير حول تأثير فيس بوك على الانتخابات الأمريكية عام 2016 وهو ما عرف بفضيحة شركة كمبردج أناليتيكا لتحليل البيانات والتى جمعت معلومات خاصة عن أكثر من 50 مليون مستخدم لموقع فيس بوك من خلال تطوير تقنيات لدعم الحملة الانتخابية للرئيس دونالد ترامب فى عام 2016، حيث ضمت حملة دونالد ترامب وقتها إلى جانب الموظفين مبرمجين وكتاب محتوى إعلانى ومهندسين متخصصين فى الشبكات وتحليل البيانات من فيس بوك وهو ما ساعده وقتها على الفوز وهو ما ألهم وقتها زوكيربرج بأنه قد يرشح نفسه فى وقت ما لمنصب الرئاسة حتى أنه قام بجولة فى الولاياتالأمريكية المتأرجحة عام 2017. وأن الخطابات التى ألقاها وقتها كانت «تشبه ما يعتقده طفل صغير عن الرئيس». الاستجابة للحزب الشيوعي تضمن الكتاب الذى يتجاوز 400 صفحة فصلا يحمل اسم «Aldrin»وهو الاسم الرمزى لمشروع إلغاء حظر فيس بوك فى الصين، وبحسب ما ذكرته الكاتبة فقد كان ذلك يتضمن العديد من الترتيبات المعقدة التى تشمل شراكات مع شركات صينية، جمع البيانات، وأدوات الرقابة التى كانت بهدف إرضاء الحزب الشيوعى الحاكم فى الصين ومساعدته على فرض الرقابة على الانتقادات الموجهة له. ولأن مارك زوكربيرج كان من المتوقع أن يواجه أسئلة من الكونجرس حول هذا المشروع، فقد أعد له فريق العمل بالشركة قائمة بالأسئلة التى يمكن لأعضاء الكونجرس سؤالها مع إجابات معدة بعناية بهدف تضليل الكونجرس، وأضافت الكاتبة: «سيحتاج الأعضاء فى مجلس الشيوخ إلى طرح أسئلة محددة جدا حتى يستطيعوا الوصول للحقيقة»، وتشير إلى إجابة زوكربيرج أمام لجنة فى مجلس الشيوخ عام 2018، حينما سأله أحد الأعضاء كيف يتعامل فيس بوك مع عدم استعداد الحكومة الصينية للسماح لمنصة وسائط اجتماعية سواء كانت محلية أو أجنبية للعمل فى الصين ما لم توافق على الامتثال للقانون الصينى؟ وقتها رد زوكربيرج«:لم تُتخذ أى قرارات بشأن الشروط التى تعرض بمقتضاها أى خدمة مستقبلية فى الصين»، وهو ما علقت عليه سارة وين-ويليامز فى الكتاب بقولها: «كان يكذب» فقد تعاون بشكل وثيق مع بكين لاستكشاف خيارات الرقابة المحتملة للحكومة الصينية للتحكم فى المحتوى. ووفقا لما ذكرته مجلة Fortune فقد تقدمت سارة وين وليامز قبل صدور الكتاب بشكاوى إلى هيئة الأوراق المالية والبورصات الأمريكية (SEC) تشرح فيها مخاوفها من أن «ميتا» طورت نظام رقابة للصين عام 2015، والذى تضمن نظام أمان يمكنه إغلاق الموقع بالكامل خلال فترات الاضطرابات الاجتماعية، كما درست الشركة مشاركة بيانات المستخدمين مع الصين وتقييد حساب معارض صينى معروف يعيش فى الولاياتالمتحدة بعد ضغوط من مسؤول صينى كبير، وذلك لأن الصين هامة جدا بالنسبة إلى زوكيربيرج فهى تخضع لنظام رقابة صارم يعرف باسم «جدار الحماية العظيم»The Great Firewall لكن، مع وجود أكثر من مليار مستخدم للإنترنت، لا تزال الصين أكبر سوق إلكترونى فى العالم. أثار محتوى الكتاب غضب ميتا، وبجانب طلب التحكيم فقد أصدرت الشركة بيانا أدانت فيها الكتاب واعتبرته «عمل موظف ساخط طُرد بسبب سلوكه الضار وضعف أدائه، كما أنه لم يتم التحقق من صحة المعلومات الواردة فى الكتاب». وقال أندرو بوسورث، المدير التقنى فى ميتا، على منصة Threads إن الكتاب «ملىء بالأكاذيب، والقصص المختلقة»، كما كتب موظفون حاليون وسابقون فى ميتا على وسائل التواصل الاجتماعى منشورات تفيد بأن الكتاب لا يعكس ميتا التى يعرفونها، وكتبت كاتى هارباث مسؤولة السياسة العالمية منشورا حول احتواء الكتاب على أخطاء فقالت: «عندما تكون الحقائق خاطئة، تكون الاستنتاجات التى يتوصل إليها الناس خاطئة أيضًا، تستحق إخفاقات الشركة الحقيقية التدقيق، لكن المبالغات والتحريفات لا تزيد الحوار إلا تعقيدًا».