يشكو الرئيس ترامب من عدم عدالة النظام التجاري العالمي الذي أدى إلى معاناة أمريكا من العجز لسنوات طويلة، وهو يعتقد أن الشركاء التجاريين الكبار، وبالذات الصين والاتحاد الأوربي وحتى كندا، يغشون، بل إنهم يسرقون الوظائف الأمريكية، وتسببوا في إغلاق مصانع الصلب والألومنيوم، وإلى انتقال جزء كبير من صناعة السيارات إلى خارج الولاياتالمتحدة. وبناء على كل ذلك قرر الرئيس فرض تعريفة جمركية تعويضية تتناسب طرديا مع مقدار العجز. فإذا كان العجز التجاري مع الصين يصل إلى 67% من حجم التجارة الأمريكية لهذا البلد، حيث إن أمريكا تصدر فقط ثلث قيمة وارداتها من الصين، فإن التعريفة التعويضية الجديدة ستكون في حدود 34% (نصف نسبة العجز). فإذا عرفنا أن ترامب سبق أن فرض ضريبة قدرها 20% على الصين، لوجدنا أن إجمالي التعريفة على الصين ستبلغ 54% من قيمة السلع الواردة، وأهمها السيارات، وقطع الغيار والأجهزة الكهربائية. ولعل سياسة الرئيس ترامب ينطبق عليها المثل القائل: نشكو الزمان والعيب فينا. فالعجز التجاري الأمريكي لا يرجع فقط إلى اختلاف المعاملة الضريبة بل قد يرجع إلى عكس ذلك تمامًا، مثل عدم كفاءة الصناعة الأمريكية وتخلفها التكنولوجي. كذلك لم تكن الولاياتالمتحدة مضارة تمامًا من تحقيق عجز تجاري، حيث إنها تدفع قيمة هذا العجز بطبع دولارات إضافية، ولا تكلفها هذه الدولارات شيئًا. وهي تستمر في هذه السياسة طالما العالم مستعد لقبول الدفع بالدولار الورقي. وعليه كانت السياسة الأمريكية ولعقود طويلة تشجع فتح الأسواق، وراحت تتغنى بفوائد العولمة والاقتصاد الحر، وكرست المنظمات الدولية الكبرى مثل منظمة التجارة العالمية وصندوق النقد الدولي لتشجع الدول النامية على قبول فتح أسواقها، ووعدتها بعالم مزدهر تجد فيه صادراتها القبول في العالم الأول. ومما لاشك فيه أن هناك الكثير من الدول قد استفادت من هذا النظام، وفي مقدمة هؤلاء ما كنا نسميها النمور الآسيوية، وانضم إليها بعد ذلك الصين وفيتنام وبنجلاديش والهند. أما في أمريكا الشمالية فقد اعتقد الساسة الأمريكيون أنهم حققوا إنجازا كبيرا بإقناع كنداوالمكسيك بالدخول في اتفاقية منطقة التجارة الحرة لأمريكا الشمالية 1994. وتسببت هذه الاتفاقية في تحقيق رخاء غير مسبوق للدول الثلاث. بل إنها حققت المعادلة الصعبة المتمثلة في وقف الهجرة غير الشرعية من المكسيك للولايات المتحدة، مع ارتفاع مستوى المعيشة في المكسيك. (معظم الهجرة غير الشرعية إلى الولاياتالمتحدة تأتي من دول أمريكا الوسطى، ودول العالم الثالث الأخرى). هل ينجح ترامب في سياسته الجديدة؟ الإجابة على ذلك صعبة، وبالذات بالنظر إلى الإجراءات العقابية التي قد تأخذ الصين والدول الأوربية المتضررة من الضرائب الجديدة. كذا، وكما أشرنا سابقا فإن الولاياتالمتحدة قد استفادت كثيرا من العولمة، وأصبحت عشرات الآلاف من السلع متاحة للمواطن الأمريكي بأرخص الأسعار. وتؤدي التعريفة الجديدة بالضرورة إلى ارتفاع الأسعار. وربما لا يكون الارتفاع في الأسعار كبيرًا إذا كان الطلب الأمريكي مرنًا، حيث يتحمل المنتج الأجنبي الجزء الأكبر منها. وفي جميع الأحوال سينخفض مستوى معيشة المواطن الأمريكي الذي سيدفع أكثر للسلع التي يستهلكها، وكذا قد يفقد بعضهم وظائفه بسبب ضياع فرص التصدير. وفي جميع الأحوال ستؤدي التعريفة الجديدة إلى ارتفاع أسعار المستهلكين في العالم. كذلك ستنخفض الصادرات الأمريكية إلى الأسواق الكبرى وبالذات الاتحاد الأوروبي والصين بسبب التعريفات الانتقامية التي تفرضها هذه الدول. وهكذا الاحتمال الأكبر هو أن تؤدي التعريفة الجمركية الحمائية إلى تراجع التجارة الدولية وربما الدخول في مرحلة كساد تضخمي. وممكن لدول أوروبا والصين أن تقاوم التعريفة الأمريكية بزيادة الإنفاق الحكومي المحلي وتخفيض الضرائب، وأيضا اتباع سياسة نقدية توسعية لتعويض الصادرات إلى الولاياتالمتحدة. ما موقفنا نحن في المنطقة العربية من تعريفة ترامب الجديدة؟ من الملاحظ أن التعريفة المفروضة على الدول العربية من أقل المعدلات التي فرضتها المعادلة السحرية التي استخدمتها وزارة التجارة الأمريكية. والسبب هو أن معظم الدول العربية لديها عجز مع الولاياتالمتحدة، ومن هذه الدول مصر. وعلى ذلك فالتعريفة الإضافية هي 10% فقط بينما هي في إسرائيل 17%. ومن الغريب أن سوريا والعراق ستدفعان ضرائب إضافية قدرها 41% و39% لأنهما تتمتعان بفائض صافٍ مع الولاياتالمتحدة. وكذا الجزائر والأردن ستدفعان 30% و20% على التوالي. هل تستفيد مصر؟ يؤدي فرض تعريفة جمركية متباينة إلى إعادة توزيع التجارة العالمية. وأمام مصر فرصة لتعوض تأخرها في تحقيق زيادة في صادراتها بينما تتأذي الدول المنافسة للصادرات المصرية. فقد فرض ترامب ضرائب عالية على الدول التي تصدر المنسوجات والملابس الجاهزة ومنها بنجلاديش (37%)، وميانمار، وبورما (45%)، والهند (27%)، وباكستان (30%). وعلية ستتمتع مصر بميزة تفضيلية في تجارتها مع الولاياتالمتحدة. ومن الممكن أن تصبح قطاعات الصناعة المصرية أكثر جاذبية للمستثمرين من الدول التي تعاني من تعريفة جمركية عالية مثل الصين والاتحاد الأوروبي والهند. وهكذا فقد فتح ترامب بسياسته التجارية الجديدة بابًا للتخمينات والتوقعات. ورغم الاستفادة النسبية لبعض الدول والمناطق إلا أن النتيجة الأكيدة هي أن السياسة الحمائية قد تأخذ وقتا طويلا حتى تعطي أُكلها في الولاياتالمتحدة. أما التأثير المباشر فهو انخفاض حجم الإنتاج والتجارة العالمية. والمؤسف أن سياسة ثمانين عامًا من تحرير التجارة في اعقاب الحرب العالمية الثانية، بدءًا من اتفاقية الجات 1947، إلى إنشاء السوق الأوروبية المشتركة 1957، ومنظمة التجارة العالمية 1995، أصبحت بين يوم وليلة في خبر كان بسبب السياسات الحمائية للاقتصاد الأول في العالم.