كان كل شيء يبدو طبيعيًا بعد إفطار اليوم الأول من رمضان. الشوارع هادئة إلا من أصوات الأطفال يلعبون، وأصوات التلفزيونات التي تعلو منها ضحكات البرامج الكوميدية وصخب المسلسلات. في أحد العقارات القديمة بكرداسة في الجيزة، كانت «مريم» تضع آخر لمساتها على ترتيب شقتها التي استأجرتها صباحًا. لم تكن تعلم أن هذا المساء سيحمل لها ولأسرتها مأساةً لا تُمحى، بمصرع طفليها ونجاتها من موت محقق بالقفز من شرفتها بالطابق الرابع. حريق شقة كرداسة.. «صرخة بعد الإفطار» تكشف الفاجعة «الحقوني.. الحقوني!».. كانت الصرخة الأولى التي اخترقت سكون الحي، كما تروي «أم إبراهيم»، صاحبة العقار: «كنتُ جالسةً في شقتي بعد الإفطار، أشاهد التلفزيون، وفجأة سمعتُ الصراخ، خرجتُ إلى الشرفة مذعورةً، لأجد (مريم) في الطابق الرابع تقف على النافذة، وجهها مرعوب، والدخان يتصاعد خلفها». «مريم»، الأم لطفلين، كانت عالقة في شقتها المشتعلة. دخان كثيف يملأ المكان، والنار تلتهم الأثاث الذي لم يُستخدم بعد. لم يكن أمامها خيار سوى أن تصرخ وتطلب النجدة. «كانت تصرخ وتقول: (هاتوا لي مرتبة!).. كانت تريد القفز، لكننا لم نجد مرتبة بسرعة، وقبل أن نتمكن من فعل أي شيء.. قفزت!»، تقول «أم إبراهيم» بصوت مختنق. سقط جسد «مريم» على الأرض، بين صرخات الجيران الذين هرعوا إليها. كانت ترتجف، لا تزال تتنفس، لكن عينيها كانتا نصف مفتوحتين، كأنها تحاول أن تبقى مستيقظة رغم الألم. رب الأسرة يبحث عن رزقه لم تكن النار قد التهمت كل شيء بعد. داخل الشقة، كان هناك من هو أضعف وأصغر.. «مازن» و«يزن»، طفلان لم يعرفا كيف يهربان. «سمعنا صوت بكاء الأطفال من الداخل، كانا محبوسين وسط الدخان»، تقول «أم إبراهيم»، مالكة العقار، «وصلت سيارات المطافئ متأخرة، لكنهم دخلوا وأنقذوا الطفلين.. كانا لا يزالان يتنفسان، لكن بصعوبة!». حمل رجال المطافئ الطفلين، جسديهما الصغيرين كانا أشبه بدمى هش، لكن فيهما نبض خافت. لم يضيعوا وقتًا، نُقلا إلى المستشفى على الفور، لكن الأمل كان واهيًا. «أنت فين؟.. بيت ولع» في هذه الأثناء، كان الأب بعيدًا عن هذا كله. «أحمد»، الرجل الثلاثيني، خرج بعد الإفطار ليبحث عن رزقه، يعمل على «توك توك»، ينقل الركاب بين الشوارع المزدحمة، لا يدري أن حياته تحترق خلفه. «كنتُ في الطريق عندما تلقيتُ اتصالًا من أحد الجيران. قال لي: (أنت فين يا عم؟ بيتك ولع!).. لم أفهم، ظننت أنه يمزح، لكنني سمعتُ الصراخ في الخلفية.. ثم صوته وهو يقول: (مراتك نطّت من الدور الرابع!)»، حسب روايته أمام أجهزة الأمن. أوقف «أحمد» التوك توك وسط الشارع، لم يسأل عن الأجرة، لم يقل شيئًا، فقط انطلق يركض بأقصى سرعة، كأن أقدامه لم تعد تتحمل ثقل الأخبار التي تلقاها. «حين وصلت، رأيت الدخان، رأيت الناس متجمعة، رأيتُ زوجتي على الأرض، والدم حولها.. لكن أول سؤال خرج مني كان: (وأولادي؟ فين عيالي؟)»، يحكى «أحمد» أن أحدًا لم يجب عن سؤاله. وداع في المستشفى في مستشفى قريبة، كانت يدٌ صغيرةٌ باردةٌ تمسك بيد أخرى أكثر برودة. كان «مازن» و«يزن» يرقدان جنبًا إلى جنب. لم يكن هناك ألم بعد الآن، لم يكن هناك خوف، فقط هدوء الموت. «حين وصلتُ المستشفى، كنتُ لا أزال أتمسك بالأمل.. كنتُ أقول لنفسي: (أكيد ربنا سترها).. لكنهم أخبروني أن الطفلين لم يتحملا.. أن دخان الحريق أنهك رئتيهما.. وأنهما ماتا!»، يقول «أحمد»، وعيناه معلقتان في الفراغ. لم يستوعب الأمر في البداية. كيف يخرج لطلب الرزق، ويعود ليجد طفليه في ثلاجة الموتى؟ كيف كانا يضحكان معه عند الإفطار قبل ساعات، والآن ينامان للأبد؟. «كل شئ أصبح رمادًا» بعد ساعات من إخماد الحريق، صعدت «أم إبراهيم»، صاحبة العقار، لترى ما تبقى من الشقة. وقفت عند الباب، لكنه لم يميز شيئًا. «كل شيء صار أسود.. الحيطان سقطت، الأبواب تفحمت، حتى الثلاجة التي كانت جديدة ذابت من النيران.. السرير الذي اشترته (مريم) لأطفالها صار رمادًا.. لم يبقَ شيء!». كان هناك طبقٌ محترقٌ على الطاولة، وبعض أرغفة خبزٍ متفحمة. آخر بقايا إفطارٍ لم يكتمل، آخر ما تبقى من يومٍ بدأ كأي يوم، لكنه انتهى بكارثة. لا أحد يسأل في المشرحة في مشرحة زينهم، كان «أحمد» واقفًا أمام جثتي طفليه. لم يبكِ، لم يتحرك، فقط كان ينظر إليهما كما لو أنه يراهما لأول مرة، أو ربما للمرة الأخيرة. «طلبوا مني أن أوقّع على الأوراق لاستلام الجثتين.. وقّعت.. لكنني لم أفهم.. كيف أوقّع على موت أولادي؟ كيف أخرج بهم في كفن؟».. كانت الغرفة باردةً، رغم أن جسده كان يحترق من الداخل. حين مدّ يده ولمس جبين طفله الأكبر، شعر بتلك البرودة الغريبة. «كيف صار ولدي باردًا؟ كيف يبرد طفلٌ كان يركض قبل ساعات؟ كيف يصمت فمٌ كان يضحك بالأمس؟»، أخذ يردد الأسئلة وسط إصابته بحالة انهيار. في نفس اليوم، كان من المفترض أن توقع «مريم» عقد الإيجار، أن تجلس مع زوجها وأصحاب البيت، أن تبتسم بعد التوقيع وتقول: «أخيرًا ارتحنا». لكنها لم ترتح. لم يمضِ «أحمد» على العقد، بل مضى على شهادة وفاة طفليه، وفق أقارب الأسرة المنكوبة. في المساء، حين هدأ كل شيء، جلس «أحمد» أمام بقايا بيته، رفع رأسه إلى الطابق الرابع، حيث كانت الحياة، حيث كانت زوجته وأطفاله، ثم أغمض عينيه. النيابة العامة، بدروها صرحت بدفن جثتى الطفلين، كما أمرت بانتداب فريق من الخبراء من المعمل الجنائي للعمل على تحليل كل عينة وبقايا مواد الحريق من موقع الحادث للوقوف على أسبابه.