في أقل من شهر، طردت وزارة الكفاءة الحكومية في أمريكا والتي يقودها الملياردير الأمريكي ورجل الأعمال إيلون ماسك آلاف الموظفين الفيدراليين من أعمالهم، وجمدت مليارات الدولارات من مخصصات التمويل، وفحصت كميات هائلة من البيانات والمعلومات الخاصة؛ لتترك الآلاف من الأمريكيين يتساءلون عما يحدث. وفي تقرير مطول، وصفت صحيفة «واشنطن بوست» الأمريكية الحملة التي يقودها إيلون ماسك ضد الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، USAID، ب«الحملة المحمومة التي تهدف لتدمير الوكالة»، وإعاقة المكتب المالي لحماية المستهلك، ومنح التقنيين الشباب الوصول إلى أنظمة الكمبيوتر الحساسة- ومن بينها أنظمة المدفوعات التي تبلغ قيمتها تريليون دولار للحكومة بأكملها- وهو ما ترك الكثيرين من يعملون في أجهزة الخدمة المدنية وخارجها في حالة من الذهول. وأشارت «واشنطن بوست» أنه لعقود طويلة كان يُنظر إلى الوكالات الفيدرالية الأمريكية باعتبارها بيروقراطيات بطيئة ومقيدة بالقواعد، ومبنية على سلاسل قيادة صارمة من البروتوكولات والضمانات، وهي أنظمة يري المنتقدون أنها تحبط محاولات الإصلاح، ولكنها في الوقت نفسه تحمي شبكات الأمان الاجتماعي الضرورية، وكذلك الأمن القومي، من خلال إبطاء أو منع أي تغييرات سريعة. ترامب يتسلّح بلجنة إيلون ماسك ذكرت الصحيفة أن الرئيس ترامب ولجنة خفض النفقات الحكومية التي يقودها ماسك تسعى إلى تحدي الآلاف من القوانين التي تحدد قواعد العمليات الحكومية، أو تقود للتحايل عليها، وهي القواعد الواردة في قانون اللوائح الفيدرالية المكون من خمسين فصلا. وعلي الرغم من رفع عشرات الدعاوي القضائية في مواجهة تصرفات الإدارة الهادفة لتفكيك قطاعات كبيرة من الحكومة، إلا أن القضاة أصدروا أحكاما متفاوتة، وقد تكون هناك وسائل محدودة للغاية أمام الموظفين للاعتراض على قرارات إقالتهم. وتجد الصحيفة أن المسؤولين التابعين لترامب وماسك تغلبوا على الحواجز التقليدية لعدة أسباب؛ ففي الواقع، بعض هذه القواعد واللوائح والقوانين تتسم بآليات إنفاذ ضعيفة، أو لم يتم اختبارها. وهناك قواعد وقوانين أخرى أقوي وأكثر رسوخا، ولكن الإدارة الحالية تجاهلتها بكل بساطة، أو أعلنت أن السلطة الدستورية للرئيس تعلو عليها، على أمل أن تقف المحاكم في نهاية المطاف إلى جانب البيت الأبيض. وفي حالات أخرى، كانت الضمانات التي تبطيء الوصول إلى البيانات الحساسة، أو تمنع الإدارة من تقليص حجم الوكالات الفيدرالية، محدودة أو غير موجودة؛ لأن المشرعين والهيئات التنظيمية السابقة لم تتخيل أبدا أن أغني رجل في العالم سوف يسعي لإعادة هيكلة الحكومة الفيدرالية بشكل جذري من داخلها. بالإضافة إلى ذلك، فإن اثنين من الضوابط والتوازنات الحاسمة فيما يتعلق بالسلطة التنفيذية معطلة إلى حد كبير في الوقت الحالي؛ فعادة ما كان الكونجرس ومفتشو الوكالات يراقبون التجاوزات وسوء السلوك ويبرزون المخاوف بشأن قرارات الإدارة المنحرفة. عملية تطهير عقب العودة للبيت الأبيض أقال الرئيس الأمريكي 17 من أبرز المفتشين على أعمال الوكالات الفيدرالية، في عملية تطهير جرت بعد أربعة أيام فحسب من توليه منصبه، تاركا الإشراف في يد مسؤولين مؤقتين، بينما لم يقم الكونجرس الذي يقوده الحزب الجمهوري بفرض أي قيود على ترامب أو ماسك حتى الآن. وقال مسؤول كبير في إدارة ترامب، متحدثا باسم البيت الأبيض وماسك، في مقابلة مع الصحيفة الأمريكية: «نعتقد أن كل ما نقوم به قانوني من خلال صلاحيات المادة الثانية من الدستور، نحن ندرك أنه سيكون هناك دعاوى قضائية، لكن كل إجراء سوف تؤيده المحكمة العليا»، مضيفا أن جميع أعمال وزارة الكفاءة الحكومية تحظى بموافقة رؤساء الوكالات الذين عينهم ترامب. وذكرت «واشنطن بوست» أن الإدارة تدافع عن تصرفاتها باعتبارها ضرورية للقضاء على عمليات الاحتيال، وإهدار الموارد في البيروقراطية. في أمر تنفيذي، أكد البيت الأبيض أن ترامب لديه السلطة لإقالة المسؤولين التكنوقراط، وذلك على الرغم من أن قانون صدر عام 1978 يحظر على الرئيس القيام بذلك دون سبب مشروع. وتجد الصحيفة أنه على المدي الطويل، لا يزال من الممكن أن تقوم العديد من الضوابط الحالية بوقف أو إبطاء جهود ماسك لجمع كميات هائلة من البيانات، وتخفيض آلاف الوظائف الفيدرالية؛ إذ تقوم النقابات والمجموعات القريبة من الحزب الديمقراطي بمعارضة العديد من قرارات ترامب في المحاكم، وبالفعل أوقف بعض القضاة الفيدراليين بعض الأوامر الخاصة بتجميد الإنفاق، وتقييد وصول وزارة الكفاءة الحكومية إلى بعض البيانات المالية الحساسة، وسمحت بعض الأحكام- حتى الآن- للإدارة بتقديم عرض جماعي للموظفين للاستقالة والحصول على رواتبهم حتى شهر سبتمبر، لكن الكثير من هذه المعارك القانونية قد تستغرق سنوات لحلها. أما على المدي القريب، فقد بدأت بالفعل عملية إعادة هيكلة جذرية لحجم ونطاق الحكومة، وقد يكون من الصعب التراجع عنها. ويقول النائب جيمي راسكين من ماريلاند، وهو الديمقراطي الأبرز في لجنة القضاء بمجلس النواب: «ما يحدث هو هجوم هائل على سلطة التشريع في الكونجرس ونأمل أن تستخدم المحاكم آلياتها لوقف الضرر قبل أن يصبح غير قابل للإصلاح». ماذا فعل رجال ترامب وإيلون ماسك؟ تجد «واشنطن بوست» أن المسؤولين التابعين للرئيس ترامب ورجل الأعمال إيلون ماسك استخدموا بذكاء أدوات السلطة للتحايل على العديد من القواعد واللوائح التنظيمية، ويعود هذا بشكل ما إلى أن هذه القواعد لم تأخذ في الاعتبار أبدا الطريقة التي يتعامل بها البيت الأبيض. على سبيل المثال، تتطلب أغلب الوظائف رفيعة المستوي المخصصة للتعيينات السياسية الكشف عن أي تضارب في المصالح، والتحقق من الخلفية، وغير ذلك من إجراءات التحقق أو اعتماد مجلس الشيوخ، وقد تجنب ماسك وفريقه هذه الضرورة إلى حد كبير من خلال العمل كموظفين حكوميين خاصين. هذا الدور الحكومي موجود وقديم، ولكنه يطبق عادة على المستشارين الرئاسيين الذين يخدمون لفترات قصيرة، بأجر أو بدون أجر. وفي عهد الرئيس جو بايدن، خدمت المستشارة أنيتا دان بهذا الشكل، وكذلك فعل فريق العمل الخاص بكوفيد-19. من حيث الوضع الرسمي، لا تواجه هذه المناصب التدقيق العام في تضارب المصالح، لأن الكونجرس افترض في شاغلي هذه الوظائف أننا «نحتاج إلى خدماتهم أكثر مما نشعر بالقلق تجاه تضارب المصالح»، كما قال والتر شوب، المدير السابق لمكتب أخلاقيات الحكومة، «أو باعتبار أن أي تضارب في المصالح لن يؤثر على عملية اتخاذ القرار». لكن ماسك يقوم بعمل مختلف تماما؛ ففي الوقت الذي يستفيد فيه من تجاوز عمليات التدقيق والإفصاح، وهو تصور لم يأت على ذهن المشرعين عندما أنشأوا منصب «الموظف الحكومي الخاص» عام 1962؛ إذ يتطلب القانون من ماسك تقديم تقرير إفصاح مالي، يوضح أصوله ومصادر دخله، وهو ما قال البيت الأبيض أن ملتزم به، ومع ذلك، يمكن أن تبقي هذه الإفصاحات سرية. ويسمح القانون للإدارة بمنح الموظف الحكومي الخاص إعفاء من تضارب المصالح، ولم يذكر البيت الأبيض ما إذا كان ماسك قد حصل على مثل هذا الإعفاء. وتقول آن جوزيف أوكونيل، أستاذ القانون بجامعة ستانفورد، والمتخصصة في البيروقراطية الفيدرالية: «لم تكن آنيتا دان تغلق أبواب الوكالة وتغوص في فحص المواد السرية». تقول «واشنطن بوست» إن فريق ماسك لفت الانتباه أيضا إلى الثغرات في القوانين التي تهدف إلى منع الوصول السهل إلى البيانات الحكومية الحساسة وأنظمة المدفوعات؛ فبعد هجوم إلكتروني وقع قبل عقد من الزمان ضد بيانات شخصية ل21 مليون موظف فيدرالي ومتقاعد يحتفظ به مكتب إدارة الموظفين، عزز الكونجرس الدفاعات السيبرانية للحكومة، وفرض ضوابط صارمة على تكنولوجيا المعلومات الفيدرالية، وجعل الوصول المصرح إلى هذه الشبكات جريمة جنائية. ويرى الخبراء أنه رغم ذلك، فهذه القوانين لم تُصمم مع وضع وزارة الكفاءة الحكومية في الاعتبار، فقد كُتبت قوانين الخصوصية لمنع ومعاقبة الأفعال المتعمدة التي يرتكبها موظفو الحكومة، أو منع الهجمات التي تشنها أي حكومات أجنبية. وتقول ماري إلين كالاهان، التي شغلت منصب كبير مسؤولي الخصوصية في وزارة الأمن الداخلي: «كنا نتوقع هجوما مباشرا، قراصنة يبحثون عن إساءة استخدام من قبل الموظفين الفيدراليين، لكن الاستيلاء الكامل على البيانات عن طريق طرف ثالث لم يتم التفكير في ذلك الأمر مطلقا، مع الفرضية الأساسية لهذه القوانين»، لكن الواقع، هو أن الوزراء في الحكومة، وحتي القائمين بأعمالهم، يقدمون تقاريرهم إلى الرئيس ترامب، الذي يحق له أن يطلب السماح لفريق ماسك بالدخول والاطلاع عليها. تغييرات هائلة لم يتوقعها الكونجرس وجد المسؤولين في إدارة ترامب العديد من الطرق لاستغلال القوانين القديمة لصالحهم، وذلك لإحداث تغييرات هائلة في الحكومة لم يتوقعها الكونجرس عندما سن قانون الخدمة المدنية بعد فضيحة ووترجيب عام 1978؛ إذ يسمح قانون الخدمة المدنية للرئيس بإعفاء الموظفين الأفراد من الفئات الأكثر شيوعا، من أجل إيجاد استثناءات لعملية التوظيف التنافسية للوظائف التي يصعب شغلها، على سبيل المثال في مجالات العلوم والتكنولوجيا والهندسة. ويسعي ترامب إلى استخدام هذه السلطة لإعادة تصنيف عشرات الآلاف من موظفي الخدمة المدنية المحترفين حتى يتمكن من تجريدهم من الحماية الوظيفية، مما يجعل من السهل عليه استبدال هؤلاء المسؤولين غير الحزبيين بآخرين من الموالين له سياسيا. ويقول بينار: «لم نتخيل أبدا أن يستخدم أحد هذه السلطة التقديرية لتدمير الخدمة المدنية». أيضا قام ماسك وفريقه باستغلال القواعد القانونية التي لا تمتلك معايير تنفيذ واضحة، أو تلك القواعد الضعيفة؛ فبموجب القانون الذي أقره الكونجرس بعد الهجوم الإلكتروني على مكتب إدارة الموظفين، فإن آليات فرض القانون لمكافحة التطفل على المعلومات الشخصية للموظف داخلية تكون في نطاق العمل إلى حد كبير، وهذا يعني أن الشخص الذي يتم الوصول إلى بياناته بشكل غير صحيح لا يمتلك حقوقا كبيرة في مقاضاة الحكومة، وفي حالات انتهاك البيانات من جانب موظفي الحكومة، يقوم المفتشون العاملون بالتحقيق. وكل وكالة لديها ضابط خصوصية للحماية من هذا التطفل. ولكن هناك جهة واحدة فحسب، وهي وزارة الأمن الداخلي، تتمتع بسلطة مستقلة للتحقيق في الخروقات التي تتعرض لها إدارات حكومية أخرى- ونادرا ما يتم اللجوء إلى هذه السلطة- فقد صُممت قوانين الأمن السيبراني لحماية الحكومة من الأعداء الأجانب، أما القوانين الفيدرالية الأخرى، بما في ذلك قانون الخصوصية، وقانون الإيرادات الداخلية، فهي تحد من إمكانية الوصول إلى بيانات دافعي الضرائب، والسجلات الشخصية، وغيرها من المعلومات الحساسة، التي من المفترض أن يطالعها عدد صغير من الموظفين الفيدراليين الحاصلين على أعلى التصاريح الأمنية، وذلك في حالات الحاجة إلى المعرفة، ومن غير الواضح مستوي التصاريح الأمنية التي يتمتع بها فريق عمل وزارة الكفاءة الحكومية، وما إذا كان الرئيس بموجب سلطاته الواسعة قد منحه هذه الإمكانية، وما إذا كان هذا الفريق يمتلك إمكانية الوصول إلى المعلومات الحساسة، كما أنه في حالات أخرى- حيث لم تكن حواجز الحماية فعالة- تجاهلت وزارة الكفاءة الحكومية قانونا يحظر إلغاء وكالة فيدرالية أو دمجها في وكالة أخرى دون موافقة الكونجرس. وتجد «واشنطن بوست» أنه يتعين على المشرعين أن يطالبوا باتخاذ إجراءات لتطبيق القانون. خاصة وأن الجمهوريين الذين يسيطرون على المجلسين لم يفعلوا أي شيء لمنع ماسك من التحرك لوضع الآلاف من موظفي الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية في إجازة مدفوعة الأجر، وأيضا استدعاء جميع العاملين بالوكالة من الخارج. أحد القضاة أوقف هذه الإجراءات مؤقتا، ولكن ليس من الواضح ما الذي ستحكم به المحاكم في النهاية. وفي الوقت نفسه، قال وزير الخارجية ماركو روبيو، وهو عضو سابق في مجلس الشيوخ عن الحزب الجمهوري، إنه سيعمل مع المشرعين لإصلاح وكالة المساعدات ودمجها في وزارة الخارجية. ويقول دونالد كيتل، الأستاذ الفخري بجامعة ماريلاند والذي يدرس الخدمة المدنية: «إنهم يحاولون وقف برامج المساعدات من خلال إغلاق الصنبور وإقالة الأشخاص الذين يديرونها، وإلغاء الوظائف. كانت كل هذه أشياء لم تكن من اختصاص السلطة التنفيذية قبل ثلاثة أسابيع».