فى مثل هذا اليوم من كل عام تذهب إلى نفس المكان. الصباح رائق لطيف، والنيل يتدفق كتيار الزمن، تتقاذفها أمواج العمر، يأخذها الماضى بلا عودة، تتذكر، تفتح أبواب القلب، تفتح الشبابيك، تغرق فى دوامة الذكريات. وجهه الأسمر، أصابعه الطويلة النحيلة، أظافره المقصوصة بعناية، قميصه الأزرق، شعره القصير، عيناه اللتان تأخذها إلى بعيد. تطلب عصير ليمون ويطلب هو فنجان قهوة. كان الهواء باردا لذلك طلبت منه أن يشرب القهوة بسرعة قبل أن تبرد. يتوه فى عينيها، ينسى فنجان القهوة، يصارحها بحبه، تعرج فى سماوات الفرح، يبعثرها، يتعثر الكلام بينهما، تعلو موسيقى الصمت، ومن شعاع الشمس يغزل لها ثوبا من نور وثوبا من دفء يتحدى الصقيع. ولأنها مثل أى امرأة فى الدنيا، لا تستطيع أن تهب قلبها فى الوقت الواحد إلا لرجل واحد، ولأن ذكراه تأبى أن ترحل، أو تغادر ولو بالموت، فقد ظلت أسيرة الذكرى، مشدودة الوثاق إلى مكان لقائهما الأول، فى ذلك الكازينو المنعزل فى أحضان النيل. الطقوس واحدة لا تتغير. فى مثل هذا اليوم من كل عام، يوم أن صارحها بحبه، تأتى فى العاشرة صباحا، قبل أن يبدأ العمل فى الكازينو ويتوافد الزبائن، تحمل زهرة حمراء نضرة مبتلة بالندى، تبتاعها من محل الزهور المجاور، لتهديها لنفسها. تطلب من النادل فنجان قهوة وعصير ليمون، وتتجاهل نظرة الدهشة التى يلقيها على المقعد المقابل الفارغ، تبتسم فى تسامح، وتعود نظراتها تتعلق بالوردة، يحضر النادل فتطلب منه أن يضع الفنجان أمام المقعد المقابل، يبتسم النادل فى فهم، فتبادله الابتسام فى رقة، وتغرق فى دوامة الذكريات. منذ رحل. منذ أقبل الحزن بغتة، وغطت الغيمة وجه الشمس، وسرقت النهار، حينما لم يعد للفرح حضور ولا للصمت موسيقى. رحلت عيناه فجأة، رحلت أصابعه فجأة، توغل الموت، تساقطت أوراق الشجر، تحولت إلى رماد. حين سمعت الخبر المشؤوم ظلت لعدة شهور عاجزة عن الفهم. لم تهضم حقيقة أن الإنسان يموت، والنجوم تموت، والأحبة يأتون ويذهبون. جلست فى الكازينو مثل كل عام. كان الوقت خريفا، والغصون تتمايل فى رفق، والزهور تصلى، والأشجار تصلّى، والشمس تصلّى، والدموع تصلّى، وفنجان القهوة يصلّى، وهى تصلّى. وفجأة حدثت المعجزة: جاء بغتة مثل الفرح، يحمل لون النيل وغموض الهرم، يجلس على المقعد المقابل. يغرق فى عينيها، يخبرها بأن الموت خرافة، والفراق أكذوبة، والعاشق الصادق مستعص على الموت. لوهلة عجزت عن النطق، حتى التحية لم تنطقها، راحت تتأمل وجهه الأسمر، وأصابعه الطويلة النحيلة، وقميصه الأزرق، وشعره القصير. ولأنها مثل أى امرأة فى الدنيا، لا تستطيع أن تكف عن العناية بحبيبها، حتى لو مات، فإنها أخبرته فى رفق، وكأنها تكلم طفلا، أن عليه أن يشرب فنجان القهوة، بسرعة، قبل أن يبرد. [email protected]