تمر علينا هذه الأيام ذكرى رحيل أعظم صوت لمطربة فى تاريخ مصر الحديث.. كوكب الشرق أم كلثوم، التى أسرت العالم العربى من المحيط إلى الخليج بصوتها الجميل.. وبهذه المناسبة نستعرض مقتطفات من أهم الكتب التى صدرت عن حياة الست، منها كتاب «أم كلثوم التى لا يعرفها أحد»، الصادر سنة 1987، للكاتب، محمود معوض، الذى يستعرض بعضًا من تفاصيل وذكريات أم كلثوم التى لا يعرفها أحد، قد يكون هذا الكتاب بنسخته المميزة- حيث تعود إلى أكثر من نصف قرن- هو الوحيد من نوعه الذى ضمّ مذكرات أم كلثوم الخاصة، فهذا الكتاب يقدم لك أيها القارئ تجربة خاصة مميزة؛ حيث ينقسم الكتاب، كما يصفه الكاتب إلى مذكراتها منها، ومذكراته عنها. فى هذا الكتاب ستستطيع أن تتعرف على وجه جديد لأم كلثوم، وأن تعرف كوكب الشرق بشكل أعمق، وتتمكن من إدراك حقائق كثيرة عنها. هذا الكتاب سيمكنك من خوض رحلة مختلفة نحو عالم أم كلثوم، كما أنه يحتوى على عدد كبير جدًا من الصور النادرة لأم كلثوم. حاول الكاتب محمود عوض أن يعوّض فى كتابه هذا المفقود من سيرة أم كلثوم، وهو الخاص بحياتها الشخصية، ومن ضمن تلك الذكريات ما روته عن «الصفعة» التى تلقتها من والدها على خشبة المسرح، حيث تحكى أم كلثوم فى بداية المذكرات، عن العاصمة، وكيف رأتها بأعيُن الفتاة الريفية: «كانت القاهرة عندما بدأنا نستقر فيها سنة 1926، كالمريخ كُل شىء نكتشفه لأول مرة، البيوت مختلفة، الشوارع مختلفة، والجمهور مختلف». كما عقدت مقارنة سريعة بين طقوس الأفراح والمناسبات، التى كانت تُدعى إليها فى القرية، وفى العاصمة فتقول: «فى الريف، كان صاحب الفرح يأتى إلينا مباشرة إلى أبى، للاتفاق على الغناء، ولكن فى القاهرة لابُد من وجود متعهد حفلات، والمتعهد هو الذى يتفق من ناحية أصحاب الفرح، ثُم هو الذى يتفق مع المطرب أو المطربة من ناحية أخرى، ويعد لهُ مكان الغناء ويتولى الدعاية لهُ بين الجمهور». لم يكُن تعامل أم كلثوم ووالدها سهلًا فى البداية، كما تذكر: «عانينا كثيرًا من التعامل مع متعهدى الحفلات، كان أبى طيب القلب، خالص النية فى تعامله، وكان العمل فى القاهرة يتطلب صفات مختلفة، ويبدو أنّ منظر أبى كرجل ريفى، ومنظرى كفتاة صغيرة، بالعقال والبالطو، يظهر أن هذا كان يغرى متعهدى الحفلات أحيانًا بالضحك علينا». ومع الوقت، بدأ والدها يكتسب الخبرة شيئًا فشيئا، يكتسب الخبرة فى التعامل مع متعهدى الحفلات، بحيث لا ينخدع منهم بهذه السهولة، وحينها بدأت المشاكل مع المتعهدين تختفى، لتحلّ محلها مشاكل أخرى مع الجمهور نفسه. كان الجمهور يأتى فى البداية، لكى يسمع غناء، وأحيانًا ليسلى نفسه، ويسهر، وإذا سمع مطربًا، فالغناء لابُد أن يتماشى مع مقتضيات السهرة، «لزوم الفرفشة»، تزامنًا مع موجة الطقاطيق الخفيفة، و«الخليعة» غالبًا التى كانت تملأ الصالات الغنائية. وعن حادث «الصفعة»، بدأت أحداثه عندما كانت تغنى أم كلثوم فى إحدى الليالى، سنة 1926، فى كازينو «البوسفور»، الذى كان يقع فى ميدان المحطة، ميدان باب الحديد «رمسيس»، حاليًا، وكان رسم الدخول للسهر فى الكازينو، 5 قروش. تقول أم كلثوم: «وفى تلك الليلة، بدأت أغنى كالعادة فى العاشرة مساءً، ولم تكن هناك آلات تصاحبنى فى الغناء، كان أفراد التخت 4، منهم أبى وأخى خالد، وكُنت أرتدى العقال والبالطو الأزرق، وأغنى المدائح النبوية والقصائد، بدءًا من (سبحان من أرسلهُ رحمة لكل من يسمع أو يبصر)». وأضافت: «بعد قليل، بدأ أفراد الجمهور يطلبون منى أن أتوقف عن الغناء، وأغنى لهُم الأغانى السائدة، مثل (بعد العشا يحلى الهزار والفرفشة)، ولكنى رفضت، واستمريت فى الغناء (سبحان من أرسلهُ رحمة)، وفى هذه اللحظة، بدأت الأصوات تعلو من الجمهور، لكى ترغمنى على التوقف». محمود عوض لم تقف المسألة عند هذا الحد، بل وقف أفراد منهم وهجموا على المسرح، وهم يريدون إغلاق الستائر، وفى هذه اللحظة فقدت أم كلثوم أعصابها، فمن جاء إلى الكازينو يعلم مسبقًا من التى ستغنى، من خلال الإعلان المُعلق على الباب، ويعلم أيضًا أنّ الأغانى التى يريدها، لها أماكن أخرى تُغنى فيها، فما معنى هذا الصفير؟. ووسط صفير الجمهور «المُزعج»، أكملت أم كلثوم ليلتها، حتى ثارت عندما هجم الجمهور على المسرح، يحاولون إغلاق الستار، كما تقول: «وفى الواقع أننى شتمت هؤلاء الأفراد من الجمهور، ولم أنتبه إلا وأبى يصفعنى بيده». تتذكر أم كلثوم تلك الواقعة: «كانت تلك أول مرة أتلقى فيها مثل هذه الصفعة من أبى، وبكيت وقتها لأننى على حق، ولكن أبى كان أوسع منى إدراكًا، فهو ضربنى أمام هؤلاء الأفراد الثائرين من الجمهور لكى يرضيهم، عندما رأى الشر فى عيونهم». فيما فسرّت ذلك: ب«خشى أبى أن يحدث لى مكروه، وأنّ يؤذينى هؤلاء الأفراد السكارى، فتطوع بمعاقبتى عنهم، كما أنه أراد أن يلقننى درسًا فى الأدب، فمهما كانت الظروف، لا يجوز لى أن أشتم واحدًا من الجمهور، ولا يجوز أن أتفوه بلفظ ناب واحد، حتى ولو كان معى الحق فى ذلك، وانسحبت من المسرح فى تلك الليلة، أجر دموعى». وعن أستاذها الشيخ أبوالعلا محمد، يذكر المؤلف: غاب الشيخ أبوالعلا محمد، يومين، على غير عادته عن أم كلثوم، وفى اليوم الثالث ذهبت إليه فى منزله فوجدته مريضا، فعادت والدموع تبلل خديها وأخبرت والدها، فرافقها هى وأخوها خالد ليمضوا عنده ليلة، حسبما تذكر فى مذكراتها بجريدة «الجمهورية، 2 يناير 1970»، مضيفة: «مكثنا عنده حتى نام، كنا نذهب إليه كل يوم إلى أن استرد صحته، وفى الأيام التالية، وحين ثقل لسانه، كان يحرص أيضا على الحضور إلينا ويغنى لى، وعندما تغيب الكلمات عنه أو يتعسر نطقها، يقول لى: إنتى عارفة أنا عايز إيه». وعن وفاة الشيخ أبوالعلا محمد تتذكر: «فى ليلة مظلمة لم يطلع لها قمر جاءنى نبأ وفاة أبوالعلا، كان فى ليلة الأربعاء 5 يناير 1927».. خرجت من شقتنا فى الزمالك هائمة على وجهى لا أدرى ماذا أفعل؟.. كان يرافقنى أخى خالد وسامى الشوا، كنت أريد أن أبكى، ولكن الدموع لم تطاوعنى، تحجرت فى عينى، سرت على قدمى من الزمالك إلى شارع فؤاد، ضاعت منى الطرق وفقدت كل تفكير، كنت أسير من شارع إلى شارع، كان كل شىء أمامى مظلمًا، مات الرجل الذى وقف بجانبى وقدم لى أكبر عون وأكبر مساعدة فى بداية حياتى الفنية، مات الشيخ أبوالعلا». تضيف: «كنت فى أول الجنازة، بكيته بدمع قلبى، وعندما واراه التراب عدت مع العائدين، ولكنى كنت أختلف عنهم جميعا لأننى أعرف قيمة الرجل الذى فارقنا وأياديه البيضاء على الموسيقى الشرقية، وعشت مع أحزان أبوالعلا فترة ليست قصيرة، حتى أشفق علىّ أهلى وكل معارفى». والكتاب ملىء بالحكايات والأسرار التى لا حصر لها عن أم كلثوم، اقتطفنا منه بعض هذه الأسرار التى نعيش معها فى ذكرى رحيل كوكب الشرق.