تلك الرائحة!

فى رأس السنة عادة ما أعود إلى قائمة الأحباب للاطمئنان على الصحة والحال والأحوال، هذا العام خشيت من المراجعة، فالموت غيَّب بعض الأحبة، والبعض يقاوم الوباء، ودعوات خالصة بالرحمة لمَن رحلوا، ودعوات بالشفاء لمَن يصارعون من أجل البقاء، لسه الحياة ممكنة.
تلك الرائحة، رائحة الموت تغشَى المكان، بِتّ أخشى ولوج «الفيس بوك»، كلما فتحته تصدمنى متوالية التعازِى الحارّة، كلٌّ ينوح، وكلٌّ يشاطر العزاء، باتت الصفحة حزينة، مُتّشحة بالسواد.
تتلاحق أنفاسى، ويدق قلبى سريعًا خشية أن يكون بينهم حبيب قد رحل، يقطع بى فى هذه الأيام الموحشة، الفيس صار صفحة وفيات سوداء.
كلٌّ يُعزِّى، وكلٌّ يُشيِّر، وكلٌّ يتذكر، اذكروا محاسن موتاكم.
وفيات الفيس تُجلِّل الأجواء بالسواد، أجواء اكتئابية مُقلِقة، رائحة الموت تُعبّق صفحات الفيس، أرقام وفيات الفيروس تحولت إلى أسماء وصور، والأسماء قريبة من النفس، أحباب.. حاجة تقطع نياط القلب.
لفتنى هذا الذى يحدث ويلون حياتى صباح مساء باللون الأسود، صار الموت محيطًا بالعباد، سبحانه وتعالى يُسبِّب الأسباب.. وكل نفس ذائقة الموت.. «وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ» (الأعراف/ 34).
صفحة الفيسبوك احتلت مكان «وفيات الأهرام» فى الإخبار عن الوفيات، وصارت حائط مبكى الخِلّان، وتبوأت مكانها باعتبارها صحيفة الوفيات المعتمدة إلكترونيًا، عرفت إن فلان مات؟.. إمتى؟.. ع الفيس!!
صفحات الفيس لم تعد تُمرِّر وفاة فى بر مصر دون إعلان، وبين طرفة عين وانتباهتها يتغير مود صفحتك من حال إلى حال، تُجلَّل بالسواد، وسيل عارم من التعازِى، لا يكلف صاحبه سوى حروف تُكتب بمداد أسود، والجمل ناعية، واللوحات مُطرَّزة بالسواد تحيط صور الراحلين، وأنتم السابقون.
بات صعبًا على الكثيرين (وأنا منهم) دخول الفيس خشية خبر وفاة يهزنى من الأعماق.
مع هجمة الجائحة فى موجتها الرابعة والأعنف، صار الفيس محلًا للوفيات، كلما هممت بالتصفّح ومتابعة الأحوال صدمتك أخبار الوفيات، وكأنك داخل على صفحة الوفيات الأهرامية، تتحسّب، وتتعوّذ، وتترحّم قبل الدخول.. وتسرع فى الخروج، إنها رائحة الموت.
أعرف أناسًا منذ زمن بعيد يفتحون صحيفة «الأهرام» على صفحة الوفيات، التى كانت تتمدد أحيانًا إلى عدة صفحات مُجلَّلة بالسواد، مع قهوة سادة، ويهزون رؤوسهم، ويتمتمون: إيييه، حال الدنيا، كلنا لها، البقاء لله.
ولكن صفحات الفيس اللانهائية باتت مرهقة للأعصاب الرقيقة، والنفوس المستبشرة.
صحيح الموت علينا حق، ولكن الوفيات سوّدت الفيس، صار الفيس ناعيًا باكيًا مُعزِّيًا، على مدار الساعة وفيات وفيات، ليس فيه خبر ميلاد، ونادرًا ما تصادف خبر زواج مبارك، كل هذا السواد فى زمن الجائحة، وكما يقول رب العزة فى محكم آياته: «لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ». (النجم /58).
(العنوان أعلاه من عناوين المبدع الكبير صنع الله إبراهيم)