قبل سنوات توفى شيخ الأزهر محمد سيد طنطاوى فى الرياض بالسعودية ودفن بالمدينةالمنورة، ومرت وفاته بصورة عادية كأنه مجرد موظف على المعاش، ونشر خبر وفاته بأسفل الصفحة الأولى فى بعض الصحف اليومية وبالصفحات الداخلية فى بعضها الآخر، ورفض أحمد نظيف - رئيس الوزراء يومئذ - أن يعلن الحداد فى مصر أو يقدم عزاءً رسميًا فى وفاة الرجل. وفى اليوم السابع عشر من مارس 2012 مات الأنبا شنودة رئيس الكنيسة الأرثوذكسية، فغير التليفزيون المصرى الرسمى وتليفزيونات غسيل الأموال، فضلا عن التليفزيونات الطائفية البرامج المعتادة، وفعلت الإذاعة الشىء نفسه، وبسرعة ارتدت مذيعات الفضائيات والأرضيات فساتين سوداء تعبيرًا عن الحزن والأسى على فقد رئيس الكنيسة، وعبر المذيعون ومقدمو البرامج عن أحزانهم بارتداء ربطات العنق أو السترات السوداء أيضًا، وكان هناك ما يشبه النواح والعويل من جانب الفريقين، وبعضهم أخذته العبرات! وصار البث مباشرًا من الكاتدرائية بالعباسية، وتحولت البرامج والنشرات إلى الحديث عن الراحل وتاريخ حياته وأمجاده التى لا تحصى، وكذلك فعلت الصحف التى تجللت بالسواد وخصصت أعدادًا وملاحق وبوسترات، على مدى أسبوع للحديث عن الرجل ووطنيته وإخلاصه وصفاته التى فاقت صفات النبيين عند بعضهم، وشبهه بعض الدعاة المنتسبين إلى الإسلام بأحمد بن حنبل مستدعيًا مقولة "بيننا وبينهم الجنائز"!، ونهض رسامو الكاريكاتير من الشيوعيين والمدمنين الذين لا يفوتون فرصة للسخرية من الإسلام والمسلمين ليرسموا حمامة السلام التى رحلت وفارقت الأرض إلى الجنة التى لا يؤمنون بها! ونسى الناس قضايا الوطن والانتخابات والدستور والسولار والبنزين والبوتاجاز فى حمأة التعبئة الحزينة المستمرة، واشتعلت عواطفهم – مسلمون قبل النصارى – للزحف نحو الكنيسة لرؤية جثمان الراحل جالسًا على كرسى مار جرجس، وتنافس كتّاب المقالات - وأغلبيتهم الساحقة مسلمون بالاسم - فى التعبير عن مشاعرهم تجاهه لدرجة المبالغة الممقوتة غالبًا، من قبيل: [شنودة رجل المحبة - انطلاق الروح - البابا شنودة الرمز والمعنى - رحيل حبر جليل ووطنى عظيم - البابا شنودة : رصيد من الحب - البابا شنودة : باب المواطنة وعرق الذهب المصرى - رحل اليوم رجل صالح - ضهر الأقباط انكسر - أبانا فى الأعالى والثورة فى الأرض- على مقعده وحيدًا رغم الزحام - من لا يحب البابا شنودة؟ - بابا العرب - متقولشى مات - حزانى عليه لا يكفكف لهم دمع - أرسل لى ابنى رسالة ليعزينى فى وفاة البابا - الوطن يتحول إلى «دفتر عزاء» كبير فى وداع «البطريرك»- ماذا خسرت مصر برحيل البابا؟!- «لأنه أحد العظماء» - رحل البابا قبل أن يبلغ مشروعه الوطنى نقطة المنتصف - مات البابا وهو ينتظر مشروع قانون دور العبادة الموحد، ليصبح من حق كل مسيحى أن يعبر حواجز الخوف ليصلى، يقطع طرقات القرية أو المدينة ليذهب إلى الكنيسة آمنًا - مات البابا وهو ينتظر مشروع قانون الأحوال الشخصية الموحد للأقباط، ليتحاكم أهل الملة بما أنزل عليهم من الكتاب. مات البابا وهو ينتظر محاكمة قتلة الأبرياء فى حوادث الفتنة الطائفية، أو فى العمليات الإجرامية التى استهدفت الأقباط، مات البابا قبل أن يحاكم الجانى الحقيقى فى كنيسة القديسين، ومات البابا قبل أن تنزل العقوبة على قتلة الشباب أمام ماسبيرو - البابا شنودة.. نموذج لرجل الدولة - البابا يخص المصريين - مدرسة البابا شنودة - البابا شنودة ملحمة عطاء - الأب الصالح يترجل]. امتدت التعبئة والمبالغة فى التعبير العاطفى إلى خارج الحدود حيث رأينا جهات عربية ومسئولين عربًا يشاركون بعواطفهم السائلة فى التعزية لدرجة أن بشار الأسد الذى يقتل ويصيب المئات من شعبه بصورة يومية يشارك برسالة ملتهبة مجاراة للسيلان العاطفى الذى يفجره الإعلام المصرى!. المفارقة العجيبة أن لابسى ولابسات السواد فى الفضائيات والإذاعة والصحافة، وهم يتغزلون فى البابا الراحل، كانوا يصلون إلى نقطة فى غاية العجب، وهى هجاء الإسلام والمسلمين من خلال الإخوان المسلمين والحركة السلفية، ويتطوعون غير مشكورين بإدانة الشعب المصرى المسلم الذى منع النصارى من تحقيق مشروعاتهم الوطنية، وحرمهم من بناء الكنائس، ولم يؤمنهم وهم يذهبون إلى صلواتهم وعباداتهم!. والأعجب من ذلك أن بعض المستنيرين أو المتنصّرين فى واقع الأمر، يبرئون البابا الراحل من تهمة التحالف مع النظام البائد الفاسد وتأييده للتوريث، وينفون عنه أنه منع أبناء الطائفة من المشاركة فى الثورة، ويدخلونه الجنة التى يخرجون منها المسلمين والمجلس العسكرى. ويقولون له: لقد مر على انتخاب مجلس الشعب ما يقرب من شهرين، الواضح أن أعضاءه عاجزون عن فعل أى شىء إلا بموافقة المجلس العسكرى.. وإذا استمر الأمر على هذه الحال فى نظرهم؛ فإن مجلس الشعب سيكون مثل برلمان مبارك، مجرد مكلمة ووسيلة لتخدير الرأى العام وأداة فى يد السلطة المستبدة. ويسألون البابا الراحل وهو فى الجنة: ماذا تتوقع من مجلس الشعب إذا كان رئيسه يتحرك فى سيارة بى إم دبليو مصفحة، بينما نصف المصريين يعيشون فى العشوائيات تحت خط الفقر؟!( كان الأولى أن يتركها فى الجراج ليأكلها الصدأ بعد أن ركبها سرور سنتين وواحد من نواب رئيس الوزراء بعد الثورة، ويركب سيارته "المهكعة" ليصطاده واحد من المجرمين).. ويقولون للبابا فى الجنة: لقد تحالف الإخوان مع العسكر وصنعوا مجلس شعب شكلياً عاجزاً، وهم الآن، بالمخالفة للإعلان الدستورى، قد سيطروا على نصف اللجنة التأسيسية وسوف يصنعون دستورًا على مقاس الإخوان والمجلس العسكرى.. بعد ذلك سوف يأتون بالرئيس الذى يطيع المجلس العسكرى.. ويقولون له: أعضاء المجلس العسكرى، مسئولون عن مذابح النصارى، يجيئون للتعزية فى الكنيسة.. لماذا استقبلتهم يا سيدنا؟! (للكلام بقية إن شاء الله).