عم جورج فين؟.. سألت وأنا لا أصدق سطور النعى المعلقة على لوحة الإعلانات فى «المصرى اليوم»، أنا أحب هذا الرجل، بالرغم من أننى لا أعرف عنه شيئا خارج مقر الصحيفة، كانت تكفينى ابتسامته الودودة وحرصه على مصافحتى باليد، وإلقائه التحية بطريقة تحسب له كقبطى متحضر، وتثبت أنه أكبر من كل «نافخى الكير» الذين يروجون ويهولون من خطورة أخطبوط «النزاع الطائفى». عم جورج مات بعد ساعات قليلة من سهرته معنا فى وردية عمل، لكننى أسمعه كل يوم وهو يقول لى «سلامو عليكو يا أستاذ جمال»، ولأننى لم أر عم جورج منذ أيام، فقد قررت أن أرد عليه السلام هنا، فهذه ليست مرثية لعم جورج، لأننى توقفت منذ سنوات عن كتابة المراثى، لأن الموت زحف على حياتنا، حتى شعرت أن الاستمرار فى رثاء الأصدقاء سيحولنى إلى «كاتب جنائزى»، بعد أن صارت ذاكرتى «قبرا كبيرا» لا تتحلل فيه أجساد ولا ذكريات الأصدقاء الراحلين.. مصلح السيد، مجدى حسنين، أشرف رفعت، حمدى صباحى، صلاح عزازى، فتحى المقدم، محمود عامر، عبدالستار الخضرى، فتحى عامر، وآخرين قيل إنهم ماتوا، لكن الحقيقة أننى أنا الذى كان يموت، فمع رحيل كل واحد منهم كنت أشعر بكلمات مجدى نجيب «تموت حتة منى»، وأشعر معها أن حياتى تتسرب منى. فى السنوات القليلة الماضية بدأت أنزعج لأن جسدى لم يعد يطاوعنى وأنا أقفز درجتين مرة واحدة على السلم (زى زمان)، ولم يعد يقدر على «أكلات زمان».. أصبحت أحتاج إلى وقت أطول لأفيق من النوم، وضبطت نفسى أدافع بحماس عن البطء والتأنى، وبدأت أنزعج أكثر لأن روحى وأحلامى، وأفكارى، وكل شىء بى لم يعد «زى زمان»، وهكذا أعلنت الشيخوخة عن سيطرتها على قدراتى، ولم أستغرق وقتا طويلا حتى تأكدت أن الذى مات فى ومنى أكبر بكثير من الحى، فما الموت إلا ذهاب من نحب ومانحب، زميل دراسة، صديق مشاكس أو طيب، جار ودود، معرفة عمل، بيتنا القديم، الشجرة التى حفرنا عليها قلبا وأول كلمة حب، أحلام الصبا، وأشياء كثيرة تتركنا وتمضى وتأخذ طعم حياتنا معها. هذا الرحيل الإجبارى يأخذنى دوما إلى تأمل فكرة «الموت والوجود»، ويذكرنى برحيل أمى رحمة الله عليها، لم أكن أتصور أن يحدث ذلك ثم أواصل حياتى بدونها، لكننى واصلت، بل لم أذرف عليها دمعة إلا بعد شهور من رحيلها، ولم تزرنى فى منام إلا بعد أكثر من عام.. استمرت البرامج النمطية للأرض، لكن «الابن» الذى كانت تقوده خطاه نحو «قبلة الأمان»، صار تائها بلا مرفأ، وشعر بمعنى اليتم بعد أن تجاوز الأربعين، هكذا يفعل بنا الموت، يسلخنا من الحياة قطعة قطعة، ويؤهلنا للتسليم بحقيقة لا فرار منها، لكن هذا التسليم لم يقض على رغبة الإنسان فى مغالبة الموت، فنشأت فلسفات، وخرافات، وتأسست علوم وظهرت شطحات، وبين الامتثال والتمرد ظلت الكتابة أقوى اختراع ضد الموت، لذلك يخربش الجميع على الجدران، ويسجلون أسماءهم «للذكرى الخالدة». فالإنسان هو الكائن الوحيد الذى يعرف أنه سيموت، وأنا أعرف مثلكم جميعا أننى سأموت، ليس لأننى مت من قبل، ولكن لأننى عايشت موت السابقين، وإذا كنت لم أستطع أن أختار ميلادى، ولم يتح لى أن أصنع مهدى بيدى، فقد تعلمت من كل هذه التجارب أن أختار موتى، وأصنع لحدى، وأهيئ نفسى لحياة أكثر خلودا، لكن المهمة ليست سهلة.. معظمنا يفكر فيها، والقليل فقط هو الذى يقدر عليها، وقبل أن أختتم مقالى لن أنسى أن أرد السلام على عم جورج.. «عليكم السلام ياعم جورج». [email protected]