الكاتب والفنان عمومًا ليس إنسانًا عاديًا، محكومًا بسياق مادى ومعنوى محدود وصارم نتيجة ظروف البيئة والمهنة والمجتمع، الكاتب يتدفق عبر حيوات الآخرين ويتدفق الآخرون عبره، حتى إذا ما وصل إلى مرحلة النضج يصبح من الصعب بعدها الفصل ما بين ذاته وبين ما يكتب، فإذا ما انتهى وجوده المادى استمر تدفقه المعنوى واللاشعورى مستمرًا بشكل أثيرى فى الوجدان الجمعى. ترك لنا وحيد حامد هذا التدفق الهائل من حيوات شخصياته وجمل الحوار فى أفلامه وأطر القضايا المجتمعية التى شغلته، وبالتالى هو لم يَعِش فقط ما بين قوسى (21- 44)، ولكن يمكن القول إنه عاش الزمن نفسه، الزمن كله. لا شىء يمكنه أن يهزم الزمن مثل الفنون، حتى الأديان نفسها أعلنت هزيمتها أمام الوقت، فعلى مدار تاريخ البشر ظهرت آلهة وعقائد وعبادات اندثر العشرات منها، لكن ما أنتجه البشر من فنون، بالتوازى مع ظهور تلك الأديان، هو الذى بقى، بل لقد حفظت الفنون سيرة الأديان وقصص الآلهة أكثر مما حفظتها الطقوس والشعائر، التى داسها الزمن بسيولته الغليظة. سلوى: ناقص تقولِّى مش خايف من الموت؟ عزت: الموت هو المحطة الأخيرة فى حياة الإنسان، محطة أساسية، كل واحد لازم يوصلَّها.. سلوى: يعنى مش خايف؟ عزت: لا مش خايف، بس مش عاوز الموت يزورنى بدرى، ياريت المحطة تكون بعيدة، يعنى عاوز أوصلَّها فى اللحظة المناسبة.. سلوى: عاوز تفهِّمنى انك عاوز تموت فى لحظة معينة؟! عزت: دعاء ورجاء لربنا يمكن يحققهولى.. سلوى: ويا ترى إيه اللحظة اللى حضرتك تحب تموت فيها؟ عزت: لحظة العجز، توقف العطاء، لحظة جمود الإنسان.. هى دى اللحظة المناسبة فعلًا للموت.. «أنا وأنت وساعات السفر». إذا كان الموت هو انتهاء عيش الزمن فى أبسط صورة فيمكن اعتبار أن وحيد حامد لم يمنح الموت فى أفلامه مساحة تُذكر، لم نشهد موت شخصية مهمة من شخصياته فى أى فيلم تقريبًا، بل على العكس كان الموت غالبًا ما يأتى مفتتحًا للخطوط الدرامية أو بداية رحلة الشخصيات، كما يبدو واضحًا فى أفلام «(الدنيا على جناح يمامة)/ موت زوج (إيمان) وعودتها وارثة، أو (قط وفأر)/ موت الأم ومحاولة استعادة جثمانها من أجل دفنه وسط أهلها، (الإنسان يعيش مرة واحدة)/ موت خطيب الدكتورة وانطلاقها إلى السلوم من أجل أن تعثر على معنى للحياة». إن وحيد حامد يكتب عن الحياة والحرية، والحق فى أن يكون كلتاهما حاضرة بشكل يُعتبر ارتباطًا شرطيًا لا يجوز فكه، ولكنه يعلم أنه ارتباط مُهدَّد بالقهر والفساد والسلطوية والاستهانة الغاشمة بقيمة الحرية على حساب الحياة أو بتوقف الحياة- كما يليق بها- مع انتفاء الحرية. والمقصود بالموت هنا هو الموت الطبيعى أو الحادثة القدَرية، ولكن ليس معنى هذا أن أفلام وحيد حامد كانت تخلو من فعل آخر مضاد للحياة، ولكنه ليس الموت الطبيعى لكنه (القتل). يتجلى القتل كفعل قاسٍ خارج عن المألوف وضد طبيعة البشر وسير الحياة، يبدو فعلًا شاذًا ومؤلمًا وغير مقبول، وفى أفلامه يكرس «حامد» طاقته الكتابية لاستغلاله كإشارة إلى خروج الإنسان عن طبيعته، إن القتل هو انتزاع حرية الحياة فى أبشع صورة، انتهاك للروح وإجبارها على مغادرة الجسد المادى الذى يعيش الإنسان من خلاله. ف«المنسى» يقتل العاشقين، اللذين لا نراهما، ولكننا نسمع حكايتهما، عبر تكثيف مرعب (دبحوها ودبحوه) لمجرد أنهما كسرا قاعدة الفصل الطبقى فى مجتمع مشوه. وفى «كشف المستور» حين تدرك سيدة المجتمع أن الأعمال القذرة لا يمكن أن تحمى الوطن يصبح قتلها هو الحل الوحيد لإسكاتها من قِبَل كل القوى التى تريد للعهر السياسى والمادى والدينى أن يستمر بحجة حماية المجتمع والناس، وهى المحطات الثلاث الأساسية التى تتوقف عندها سيدة المجتمع فى رحلة بحثها عن صك حريتها من ماضٍ كانت تظنه وطنيًا ومجيدًا. وفى «معالى الوزير»، يصبح قتل «رأفت رستم» لسكرتيره «عطية عصفور» بداية عذابه الأبدى المستحق، حيث تهاجمه كوابيس الضمير وهو مستيقظ، بعد أن كانت تحرمه من النوم ليلًا. أما مقتل «على الزهار»، فى نهاية «اللعب مع الكبار»، فهو الشرارة التى أطلقت صرخة الحلم من حنجرة «حسن بهنسى بهلول»، وهى الحلم بمجتمع أكثر عدالة يحمى فيه ضابط أمن الدولة حق المواطن فى أن يخدمه النظام السياسى والاقتصادى، لا أن يتحول إلى تكأة لهذا النظام كى يصبح أكثر ديكتاتورية وتغوُّلًا. وفى نهاية «البرىء»- المحذوفة- ينطلق «أحمد سبع الليل» فى مذبحة دموية تعلن أن الطبيعة الإنسانية يمكن أن تتحول من منتهى البراءة إلى أقصى الوحشية لو مورس عليها القهر والكذب والفساد ولوّثتها المصالح السلطوية. ومن زاوية أخرى يتجلى فعل القتل كعقاب يائس، بعد أن يفقد الإنسان الأمل فى عدالة ناجزة كما فى قتل «عادل عيسى» ل«فهمى الكاشف» فى «الغول»، وهو نفس خط «البرىء»، الذى يمكن أن نمده على استقامته حتى نصل إلى اللحظة التى يقتل فيها «أبوالمحاسن» الشخص/ الكيان الذى سلبه غريزة الحرية وغرس مكانها- عبر سنوات السجن المظلمة- حب المذلة والانكسار. بل إن القتل فى «سوق المتعة»، رغم قسوته، يتحول إلى فعل ثورى تحررى يشفى الغليل ويعيد تنسيق العالم بصورة أكثر اتزانًا. لم يُمجِّد وحيد حامد فى حياته شعارًا ولا انتصر لقيمة ولا حمل راية فوق قلمه إلا شعار وقيمة وراية الحرية بكل تجلياتها، والموت والحرية ضدان لا يجتمعان إلا إذا تهمّشت الحياة بينهما بقبضة سلطة أو استبداد مال أو قهر دينى متطرف، ولو نظرنا إلى مجمل أعماله فسوف نجد الصراع فيها دومًا ما يدور ضد هذه الطيور الظلامية الثلاثة، قبضة السلطة واستبداد المال وقهر التطرف الدينى، فلا مجال إذن للموت انسحابًا، ولكن يحضر القتل كفعل درامى قادر على التحذير من هاوية قريبة والصراخ فى وجه كل مَن يحاول الاستهانة بتدفق الروح. لم يكتب وحيد حامد عن الموت، ولكنه كتب الحياة نفسها لم يَمُتْ وحيد حامد، ولكنه كتب فعاش.. * ناقد سينمائى ومدير سينما الغد بمهرجان القاهرة السينمائى