مع أولى بدايات العام الجديد، كان هناك بعض ضوء ساطع من القمر، بدا كأنه يذوب ويمتزج فى همسات الفجر الذى اقتربت طرقاته، هذا الضوء كان يحرّض الشمس أن تترك مكمنها الليلى وتشرق على الدنيا كلها، بدا كأنه بقعة ضوء تداهم الروح فى «عزّ» العتمة، كل شىء بدا كوهج طقس أخير لظلال تتأرجح يمينًا ويسارًا. كل هذا كان يحدث، وأنا أنفض عن عينىّ غبار المدينة المزدحمة، وأستنشق عبق النهر الذى يترامى أمامى برفق، أسيرة حلم قديم لا أستطيع الفكاك منه، أطوف كل يوم فى شوارعها وأزقتها الخلفية ومقاهيها ومحطات القطار وأرصفتها، ونخيلها العالى الذى منحنى أسرارًا عميقة وسحرية. تحاصرنى عيون أطفالها بأسئلة غير مفهومة، وبحيرة غامضة، هؤلاء الأطفال تنبض أجسادهم نبضات هائلة لا تتوقف عن الخفقان، أسلك دروبًا خفية، مفعمة بالحيوية والحركة، أنصت إلى إيقاع واضح قادم من بعيد، أبحث عن نفسى بين مرايا الحنين الدافئة، أطل على ظلى الذى يهتز، وهو يغرق فى الغيوم، تحملنى الأمنيات الرقيقة إلى أزمنة مضت سريعا كحالمة فى ملتقى دربين، يحرسهما قمر وحيد لا ينقطع فيضه، أطلق طموحى بقلب صادق ومفعم بالأمل، حتى أعثر على السلام فى روحى التى تشتعل، أريد أن أمحو العلة عن سريرتى وأوقف الغيوم التى تسوقها رياح الحيرة المقيمة دومًا، والأكاذيب التى تتناثر فى صمت ولا تتركنا قبل أن تعمى أبصارنا. فى آخر الليل أنفض عن جسدى غبار الألم الفادح، وأرتب بقايا كلام وحروفًا ضائعة، كالمغنى الذى بحّ صوته من فرط الوجد، تطاردنى صورة حرت فى أمرها، وأمرّ على أشجار تهمس وتنتفض أمام ريح عابرة، أسير على الجسر الذى تتراقص أنواره طربًا، أسير وحيدة تمامًا، أشاغل كل العيون بصمت بليغ، وأبحر فى ذاكرتى وجعبتى مكدسة بحكايا عن رحلة الحب والأشواق، وتقشف الحلم، وموت الأمنيات فى مهدها، والوعد الذى لا يأتى فى موعده، وعندما يأتى يكون قد ذهب وهجه، وبهتت ملامحه، واختفى فى طىّ النسيان. يومًا ما سأطير بعيدًا وأترك ما يخيفنى ويقلقنى خلفى، لأن هذه هى اللحظة الوحيدة التى أتحرر فيها من سجن الزمن، وأتحرر من القلق، اللحظة التى ستلمس قلبى نسمة هواء طرية، وعندئذ سأنصت إلى أحاديث قلبى التى كانت غائبة، وأحلّق فى السماء وأنساب كطير، هذه اللحظة التى يبدأ فيها جنون الحرية، ونجمة تشعّ لى من أجلها... وكأن حياتى لتوّها بدأت عزف نشيدها.
