المشهد الذى أتكلم عنه هو مشهد مصرى مائة فى المائة.. هو صورة لنبض الشارع المصرى.. نروى كيف احتفل أولاد البلد بعرس الديمقراطية.. وكيف كانوا يتسابقون على لجان الانتخابات.. وفى طوابير طويلة يصطفون ولا يتضررون من طول الانتظار.. فقد كانوا فى قمة الانضباط فى شكل حضارى. وفى إحدى اللجان وعلى وجه التحديد فى لجنة مدرسة فؤاد جلال بحى الزهراء فى مصر القديمة.. سمعت أنه دخل على رئيس اللجنة الحاج على عبدالوارث على وهو سائق تاكسى وكان يصطحب زوجته وبناته للتصويت.. وعلى باب اللجنة كانوا يرددون أغنية أم كلثوم.. «وقف الخلق ينظرون جميعا كيف أبنى قواعد المجد وحدى.. وبناة الأهرام فى سالف الدهر كفونى الكلام عند التحدى..». الشىء الذى يدهشك أنهم انتزعوا تصفيق الناخبين الذين رددوا معهم هذه الكلمات التى تقشعر لها الأبدان ويهتز معها الوجدان.. ثم يأخذ الحاج على عبدالوارث دوره فى مقدمة الطابور وهو يقول: النهارده هو فرحتى لبناء مصرنا الحبيبة.. لا تعرفوا سعادتى وأنا أشارك ومعى وبناتى وزوجتى فى بناء هذا البلد باختيارنا لمن يمثلنا بإرادتنا.. فهذه أول انتخابات أنزلها فى حياتى، لأننى ضامن أن صوتى هذه المرة سيكون له قيمة. ويشاء قدرى أن أكون أحد زبائن الحاج على عبدالوارث، فليس من عادتى أن أقود سيارتى، وكالعادة أحب أن أجاور سائق التاكسى فى مقعده.. وجلست أستمع إليه وهو يروى لى كيف كان فخورا بنفسه عندما أدلى لتوه بصوته فى الانتخابات. قلت له: من هو النائب الذى اخترته.. قال: لقد اخترت القائمة التى استشعرت بأن البلد فى حاجة إليها النهارده.. ابتعدت عن المتعطشين للسلطة الذين يريدون تصفية حساباتهم مع الأنظمة السابقة فينا.. فنحن لا نريد من يخيفنا أو يتوعد بناتنا ونساءنا.. أو يغلق علينا أبواب الانفتاح بتطفيش المستثمرين العرب والأجانب أو يقضى على السياحة الأوروبية لتختفى من فوق أراضينا.. نريد أصحاب العقول المستنيرة التى لا تعترض على الرأى الآخر.. أى مواطن عاقل يريد ديمقراطية مائة فى المائة.. كفانا تراجعا عن دول سبقتنا. بصراحة.. أسعدنى أن ألتقى مع سائق تاكسى بهذه الثقافة.. وبهذا الحس الوطنى.. وبنضج ما بعده نضج.. فالرجل يتكلم كواحد من المثقفين. ثم قال لى: لا تنظر لى على أننى سائق.. فأنا أب لثمانى بنات علمتهن من تعبى وكفاحى فى الشارع المصرى، الأولى تقيم فى باريس مع زوجها وأولادها وقد حصلت على الجنسية الفرنسية، ومع ذلك تتمسك بجنسيتها المصرية وترفض أن تقول إنها فرنسية.. والثانية مساعدة مخرج فى التليفزيون.. والثالثة خريجة سياحة وفنادق.. والباقى فى التعليم. فقد كنت دائما على يقين أن الحكومة سوف تستبدل النتائج.. ولأننى أسكن فى دائرة حى الدقى فقد كنت أعرف كيف فازت مرشحة الحزب الأكذوبة فى أكثر من انتخابات فى حين أنها لم تنزل الشارع المصرى ولا يعرفها أهل الحى.. ولا سكان ميت عقبة.. أو النيل الأبيض.. ورغم الطعون على نتيجة الانتخابات فقد كان مجلس الشعب سيد قراره. قلت للحاج على: هل تعرضت لضغوط من جانب المرشحين على أبواب اللجنة. قال لى الرجل: لم يكن هناك وجود للمرشحين على أبواب اللجان.. ولم يعترضنى أحد حتى يفرض رأيه ويطالبنى بالتصويت لصالح مرشح معين.. لم يحدث هذا.. فقد كان الشغل كله على المكشوف.. تحت عين رئيس اللجنة. قلت فى داخلى: سبحان الله، هذا هو شعب مصر فعلا.. الشعب الطيب الذى يحب هذا البلد، فقد ذهبوا بدافع وطنيتهم.. لا خوفا من الغرامة التى أعلنوا عنها.. ثم إن هذه الغرامة كانت موجودة فى القانون.. ومع ذلك الناس كانت «مطنشة» أيام زمان.. حقا هناك طعم للديمقراطية وللشفافية التى لم يتذوقها رموز النظام السابق ولهم عذرهم فى ذلك فقد جاءوا إلى مواقعهم بالتزوير حتى أصبح التزوير هو حرفتهم. سألت الحاج على قبل أن أتركه: هل تتوقع خيرا بعد هذه الانتخابات؟ قال: أنا والحمد لله غير «قلقان» وعلى استعداد أن أضحى بإيرادى كسائق تاكسى.. المهم استقرار هذا البلد.. لقد زهقنا من الفوضى.. وأنا شايف مافيش داعى أن نتنكر للمجلس العسكرى عن دوره العظيم معانا.. عيب علينا كمصريين أن نتنكر للجيش الذى كان حصناً لهذه الثورة. أنا معه.. فهذا هو رأى الشارع المصرى فى أن نكون أوفياء مع الرجال الذين تحملوا مسؤولية إدارة شؤون البلاد وتحملوا الإهانات.. ولم تفلت منهم أعصابهم.. بل فتحوا لنا صدورهم.. ليأخذوا بأيدينا إلى بر الأمان.. وكون أن تنجح أول تجربة ديمقراطية فى إجراء أول انتخابات حرة نظيفة فهذا انتصار للإرادة الشعبية وللمجلس العسكرى الذى وضع كل الضمانات ليحقق حلم هذا الشعب.. وإلى غد أفضل. [email protected]