جئت إلى بيروت لحضور مؤتمرين، وكان بين المؤتمرين فارق يومين، ولم أكن أستطيع العودة إلى القاهرة ثم الرجوع إلى بيروت من جديد لذلك استأذنت أن أبقى حتى ينعقد المؤتمر الثانى وينتهى بنهاية الأسبوع الماضى، ثم أعود إلى القاهرة الصاخبة التى لا تريد أن تهدأ. كان المؤتمر الأول خاصاً بالتحكيم، وكان تنظيمه متواضعاً ونتاجه أكثر تواضعاً. أما المؤتمر الثانى فكان منظماً شديد التنظيم، وكانت مناقشاته غنية وثرية، وكان معهد «إيبالمو» فى روما هو الذى نظم المؤتمر الذى كان موضوعه تعزيز دور البرلمانات فى مواجهة السلطة التنفيذية، وكذلك دور البرلمانات فى الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية التى تلبى رغبات المواطنين، وركز المؤتمر على دور البرلمان فى مصر والعراق ولبنان. وعندما أعطانى رئيس معهد «IPALMO» الكلمة توجهت بالشكر للشعب اللبنانى لما لقيناه من حفاوة وكرم وحسن ضيافة ثم وجهت الشكر لمعهد «IPALMO» على تنظيمه هذا المؤتمر المهم ثم تحدثت بعد ذلك عن ثورة الخامس والعشرين من يناير وما أحدثته فى مصر من زلزال سياسى، وكيف أن هذه الثورة قامت بها مجموعات من أنبل وأطهر وأخلص شباب مصر وأوضحت أن الثورة لم تأت هكذا من فراغ ولكنها جاءت نتيجة تراكمات طويلة تمتد إلى أكثر من عشر سنوات سابقة على اندلاع الثورة. عشر سنوات ناضل فيها كثيرون وكتب فيها كثيرون واعتصم فيها كثيرون، وعندما وصل العبث بإرادة الشعب ذروته ووصل إهدار معنى القانون غايته فى انتخابات مجلس الشعب فى نهاية سنة 2010، وصدرت من مجلس الدولة عدة أحكام تعلن بطلان الانتخابات وعدم مشروعيتها، كان ذلك كله إيذاناً باقتراب النهاية، وكانت هذه الانتخابات وما تلاها أشبه بالقشة التى قصمت ظهر البعير، واندلعت الثورة ووقفت القوات المسلحة المصرية إلى جانب ثورة الشعب، ورفضت أن تطلق رصاصة واحدة على الثوار، وعززت بذلك موقفها الوطنى العظيم، وسقطت شرعية النظام السابق. وأعلنت قيادة الجيش أنها لن تكون أبداً بديلاً عن شرعية الشعب، وأن وجودها مؤقت إلى أن يكتمل بناء مؤسسات الدولة، وعلى هذا الأساس صدر الإعلان الدستورى الذى ينظم صورة الحكم فى فترة الانتقال التى تنتهى بنهاية ديسمبر 2011. وقلت لأعضاء المؤتمر لقد كان فى مصر دستور منذ عام 1866 ولكن الدستور بالمعنى الحديث بدأ مع دستور 1923، الذى كان دستوراً برلمانياً يقيم ملكية دستورية، حيث الملك يملك ولا يحكم وحيث السلطة كلها بيد البرلمان والحكومة. والسلطة القضائية مستقلة لا سلطان لأحد عليها. ولكن برغم روعة النصوص فإن الواقع كان يسير فى مسار آخر، كان دور البرلمان فى الأغلب الأعم هامشياً، وكان الملك والسلطة التنفيذية يتغولان على سلطة البرلمان. واستمر الوضع هكذا فى ظل ثورة 1952: برلمان خاضع خضوعاً كاملاً للتنظيم السياسى الواحد ولقيادة الثورة أياً كانت الصورة التى تأخذها. وفى عهد الرئيس السادات جرت محاولة لتغيير النظام السياسى بتبنى نوع من التعددية السياسية وقيام عدد من الأحزاب، ولكن المحاولة انتكست بعد انتفاضة الخبز والجوع فى يناير 1977. وفى أكتوبر عام 1981 اغتيل الرئيس السادات على يد مجموعة من المتطرفين الدينيين وانتقلت الأمور بعده إلى نائبه حسنى مبارك على غير توقع أو انتظار. وفى العشرين سنة الأخيرة من حكم حسنى مبارك انهارت مصر فى كل النواحى وفقدت دورها العربى والأفريقى وهانت على نفسها وعلى جيرانها، ولم يكن للنظام هدف إلا البقاء والنهب والسلب، ووصل الفساد إلى ذرى غير مسبوقة. وكان ذلك كله مؤذناً بانهيار النظام وسقوطه ذلك السقوط المدوى على يد ثوار 25 يناير، وبذلك انهار النظام القديم. وكلنا ندرك أن هدم نظام قديم قد يكون أقل صعوبة من بناء نظام جديد. وهذا هو التحدى الحقيقى الذى تواجهه مصر والذى نصمم جميعاً على اجتيازه ببناء نظام دستورى واقتصادى واجتماعى يليق بمصر وشعبها العظيم. وأحب أن أشير هنا إلى الدور الكبير الذى تقوم به جامعة بيروت العربية والتى تعتبر فى لبنان منارة من منارات التعليم والبحث العلمى والتى اتسعت فى السنوات الأخيرة وأنشأت لها فى ضاحية «دبية» قرب بيروت حرماً جامعياً ضخماً يمتد مئات الأفدنة ويشمل أربع كليات عملية جديدة، كذلك أنشأت الجامعة فرعاً لها فى طرابلس. والحقيقة أن جامعة بيروت تحظى بغير قليل من التقدير من كل طوائف الشعب اللبنانى. وقد سمعت من الرئيس فؤاد السنيورة، رئيس الوزراء السابق، ثناء جميلاً على الدكتور عمرو العدوى، رئيس الجامعة. وأحب هنا أن أتوجه إليه وإلى عمداء كليات الجامعة- خاصة العميدة الدكتورة حفيظة حداد- عميدة كلية الحقوق، بكل الشكر لما أحاطونى به من عناية ورعاية. ولا أريد أن أنهى هذا المقال بغير أن أوجه الشكر إلى السيد السفير أحمد البديوى، سفير مصر فى لبنان، الذى أحاطنى باهتمامه ورعايته والذى يحظى من الشعب اللبنانى، بكل طوائفه، بكل الحب والتقدير. وقد أقام السفير فى منزله الجميل الذى يقع على ربوة عالية فى ضاحية قريبة من ضواحى بيروت الجميلة، أقام لقاء للعديد من أبناء الجالية المصرية واستمعت إلى خواطرهم وهمومهم وحاولت أن أجيب عنها. كلهم كان مهموماً بأمر مصر وقلقاً على مستقبلها وحريصاً على أمنها واستقرارها. حقيقة كانت جلسة ممتعة فى رحاب منزل السفير أحمد البديوى سفير مصر فى لبنان، جزاه الله عنى وعن مصر خير الجزاء. وإلى لقاء فى مقال آخر عن أيام أخرى فى بيروت. والله المستعان.