يتحدث الكثيرون عن التدهور الذى أصاب مصر فى العقود الأخيرة، ولم تسلم منه ناحية واحدة من نواحى الحياة على أرضها.. من السياسة إلى الاقتصاد إلى العلوم حتى الثقافة والآداب والفنون.. وفى اعتقادى – كما هو اعتقاد كثيرين غيرى – أن وراء كل هذا التدهور ما حدث للشخصية المصرية فى تلك العقود السوداء من تاريخ هذا البلد.. وأنا لست من هواة ولا مؤيدى التعميم فى الأحكام، فعلى أرض هذا البلد العظيم العريق يعيش، ومن رحمها يخرج، الملايين من الشرفاء المخلصين والموهوبين والمحبين لترابها ولناسها، والذين تفيض قلوبهم إنسانية ورحمة، وشجاعة فى قول الحق ومواجهة الباطل إلى يوم الدين.. ولكن للأسف الشديد فإن هؤلاء بعيدون كل البعد عن صدارة المشهد العام فى هذه الدولة.. فهم لا يظهرون إلا نادراً فى وسائل إعلامها، ولا يدعون إلى حفلاتها ومهرجاناتها، ولا يشاركون فى مناسباتها بكل زيفها وضلالها.. وبالطبع فإنهم محرومون من تولى قياداتها فى كل مكان على أرضها إلا إذا حدث ذلك عن طريق الصدفة، فالنجاح فى هذه الدولة البائسة كما هو مؤكد لا يأتى إلا مصادفة . انظر حولك فى كل مكان تذهب إليه بدءاً من أصغر وحدة إدارية فيه حتى أكبرها، وراقب بعين ذكية محايدة طبيعة العلاقات بين مرؤوس ورئيسه لتعرف على الفور ما هو سر تخلفنا وضعفنا بل انحطاط أخلاقنا.. فنائب المدير يلعق حذاء مديره وتتجلى فى تصرفاته وكلماته كل آيات النفاق طالما ظل فى موقعه.. ومديره يفعل الشىء نفسه مع من عينه فى منصبه، ويستحيل أن يناقش فضلاً عن أن يناقض رأياً له، ومن عينه يفعل الشىء نفسه مع من هو أعلى منه.. وهكذا إلى قمة هرم السلطة طالما أن البقاء بالمنصب والتكسب من ورائه بالحلال أو بالحرام هو الهدف والمبتغى، وطالما أن ذلك البقاء مرهون بإرادة شخص واحد لا يُسأل عما يفعل!! إن أسوأ ما حدث فى مصر فى العقود الأخيرة هو أن السلطة تفعل ما تريد وقتما تريد بدون حساب، وحتى إذا كان ثمة حساب على مستوى ما، فإن القانون يمكن تطويعه وتفصيله كما يريد أصحاب السلطة والسلطان، بل إن هناك محترفين لإساءة استخدامه لمحاربة الشرفاء والشجعان.. انظر حولك وتمعن فيما يكتبه مثلاً بعض قادة الإعلام فى الصحف الرسمية الحكومية وتعجب.. هؤلاء الذين ينادونهم فى مقار صحفهم بالباشوات والبكوات ويتملقهم الكبار والصغار، ويتكبرون على خلق الله ويسير كل منهم كمن دانت له الأرض وبلغ الجبال طولاً.. ثم اقرأ ما يكتبه ويوقع عليه باسمه بلا خجل، فلن تجد إلا غثاءً، ونفاقاً صريحاً لأهل السلطة والقوة والمال، وبعداً عن كل ما يمكن أن يفهم خطأً بأنه رأى مخالف أو مغاير لرأيهم. انظر إلى هؤلاء الذين يظهرون يومياً على شاشات التلفاز بمختلف قنواتها، فتجد هؤلاء الذين يحملون درجات الدكتوراة والألقاب والرتب الضخمة ويلبسون الثياب الباريسية الأنيقة ممن استخدمهم النظام فى شتى المواقع يجلسون منتفخة أوداجهم، بارزة كروشهم وهم يتحدثون حديث العالم ببواطن الأمور، ويلفون ويدورون لتكتشف فى النهاية أنهم ليسوا أكثر من لاعقى أحذية وكذابى زفة ومنافقين لكل من اختارهم ويحميهم وأغدق عليهم المال والجاه والسلطان.. فلا تسمع من أحد منهم نقداً لموقف أو رأياً مغايراً يمكن أن يستثير غضب أحد من أولياء نعمته أو بطانتهم، ولا تسمع منهم إلا المراوغات المكشوفة والحجج الواهية والتبريرات الملتوية.. وهكذا ورويداً رويداً، أصبح فى هذا البلد منهاج ودستور لتبوؤ المراكز القيادية والعليا وضعته وترعاه قيادات أمن النظام، بغض النظر عن المهنية والكفاءة والمستوى الأخلاقى.. على رأس هذا المنهاج قواعد صارمة عن كيفية لعق أحذية الكبار وإظهار الطاعة والولاء، بالكذب والنفاق والادعاء، والبعد عن قول كلمة الحق والتسبيح بحمد من يملك الإبقاء والإقصاء بغض النظر عما هو معلوم عن فساده أو قلة كفاءته!! لقد انتشر هذا المرض السرطانى الخبيث فى كل أجزاء جسد الدولة المصرية فى هذا العصر الأغبر.. ولا أعتقد أنه يمكن استئصاله على المدى القريب، فالمرض ينتشر ويتغلغل فى ظل سيطرة أجهزة أمنية باطشة تقضى على الأجهزة المناعية للدولة جيلاً بعد جيل من أجل أن يستمر ويستقر النظام الذى يستخدمهم.. والأدهى والأمرّ أنه انتشر وتسرب من الرأس إلى بقية أجزاء جسد الدولة، ولم يستثن من ذلك ركناً من أركانها ولا إدارة من إداراتها !! كان ابنى يجلس بجانبى يشاهد أحد المسؤولين الكبار فى الحزب الحاكم ووزيراً سابقاً فاشلاً، كضيف فى حلقة من حلقات البرامج الحوارية على إحدى الفضائيات.. فوجدته فجأة يتعجب ويحدث نفسه قائلاً: ماذا حدث لهذا الرجل؟ لقد كان أستاذاً لى بالجامعة وكنا نحبه ونتخذه مثلاً وقدوة، ما باله يتحدث بهذه الطريقة الملتوية المداهنة التى تدافع عن واقعنا المزرى وعمن أوصلونا إليه؟ فى نفس الوقت كان أمامنا مقال لرئيس تحرير صحيفة حكومية اقتصادية أسبوعية، كان يوماً رئيساً لتحرير صحيفة مستقلة وطرد منها، تقطر سطوره حقداً أسود على شخصية معارضة محترمة وكان أيضاً يسمعنى أتحدث فى التليفون مع صديق يحكى لى كيف يتحدث نائب مدير فى أحد المستشفيات الحكومية عن مديره السابق بالكذب والافتراء وكيف يلعق حذاء مديره الحالى.. فإذا به يسألنى: ماذا حدث فى مصر يا والدى؟ إننى لا أتصور أن أحداً من هؤلاء يمكن أن يقف أمام مرآة، لأنه بالتأكيد سيخجل من نفسه؟ فقلت له: هوّن عليك يا بنى.. أمثال هؤلاء لا يخجلون وهم نتاج النظام السلطوى الذى يضع السلطة كلها فى يد واحدة بدون حسيب أو رقيب أو تغيير.. ففلسفة النظم السلطوية كلها قائمة على إفساد الشعوب، حتى يأتيهم اليقين بأنه لا مجال ولا مكان أو مكانة إلا لمن يجيد لعق الأحذية واحتراف الكذب واجادة كل آيات النفاق.. وإذا لم يتغير مثل هذا النظام.. فقل على مصر السلام!!