جنوب أفريقيا تفقد بوصلة «أبو الأمة»

عندما تم انتخاب الزعيم الجنوب أفريقى الراحل نيلسون مانديلا عام 1994 كأول رئيس أسود فى جنوب أفريقيا، اتسعت مساحة الأمل والحرية، وتزايدت الآمال فى الدولة التى دمرتها عقود من نظام الفصل العنصرى، ولكن بعد 100 عام على مولده وربع قرن على مغادرته السلطة، تدهورت الأوضاع الاقتصادية والأمنية وتراجع الإرث الذى خلفه مانديلا.
بعد ربع قرن على مغادرته السلطة، أصبحت جنوب أفريقيا من أكثر المجتمعات التى تعانى من انعدام المساواة فى العالم، وفقًا لتقرير البنك الدولى، عكس ما نادى به مانديلا، وأكد التقرير «تزايد عدم المساواة منذ نهاية نظام الفصل العنصرى عام 1994» وأوضح التقرير أن «العرق يلعب دورا حاسما فى إمكانية إيجاد وظيفة وفى رواتب الموظفين»، وأكد البنك الدولى 3 ملايين جنوب أفريقى سقطوا فى براثن الفقر بين عامى 2011 و2015، ورغم ظهور طبقة وسطى سوداء، إلا أن 20% من الأسر السوداء تعيش فى فقر مدقع مقارنة ب 2.9% من الأسر البيض، وفقا لمعهد العلاقات بين الأعراق فى جنوب أفريقيا. وتدهورت الأوضاع الاقتصادية فى جنوب أفريقيا بسبب سياسات الأنظمة التى تلت مانديلا، وبلغت البطالة 27% وسجلت 52% بين الشباب، وتراجعت معدلات النمو فى واحدة من أقوى اقتصاديات أفريقيا،
وتفشى الفساد على أعلى المستويات فى الدولة وفى الشركات المملوكة لها، خصوصا فى ظل رئاسة الرئيس الأسبق جاكوب زوما، ولا تزال العنصرية التى كافح مانديلا من أجل إنهائها ضمن التفاوت الاقتصادى الكبير، وبات التوتر العنصرى يمزق البلاد ويمارس ضغوطا على مشروع مانديلا لإقامة دولة متعددة الأعراق، ولا يزال الفصل بين الأحياء حاضرا فى مدن جنوب أفريقيا التى تنظم على طراز الفصل العنصرى مع ضواحى للبيض قرب المراكز المهمة، وبلدات للسود فى الأطراف، وتعانى البلاد من تفشى معدلات الجريمة وانعدام الأمن، ففى العام الماضى، قتل نحو 19 ألف شخص بمعدل 52 يوميا، وتواجه النساء أوضاعا صعبة، فهناك ما لا يقل عن 100 حالة اغتصاب يوميا، ويعيش الأغنياء بشكل أفضل فى مجمعات سكنية آمنة جدا خلف جدران تعلوها الأسلاك الكهربائية والكاميرات وتحت حماية الحراس المسلحين، وتعد جنوب أفريقيا أكثر دولة ينتشر فيها وباء الإيدز، حيث يبلغ عدد المصابين بالفيروس 7.1 ملايين شخص، أو 18.9% من سكانها البالغين.
وبعد 5 سنوات على رحيله، لا يزال مانديلا يحتفظ بهالة عالمية لنضاله ضد نظام الفصل العنصرى ورسالة المصالحة التى نشرها، فبدلا من الانجراف وراء دوامة الثأر من مرتكبى سياسة «الأبارتيد»، كما كان يطالب بها صقور حزبه، اختار مانديلا طريق السلام والمصالحة لما فيه خير أمته، وقال آخر رئيس أبيض فى جنوب أفريقيا، فريدريك دى كليرك: «أنا على قناعة بأن الرئيس مانديلا لو كان ما زال حيّا، لكان شديد القلق على الوضع الحالى فى جنوب أفريقيا». ويشير بعض المحللين بأصابع الاتهام إلى خلفاء مانديلا، والفساد الذى ضرب أعلى المستويات فى الدولة، ولاسيما فى عهد زوما.
نجح مانديلا فى استحداث مسار «لجنة الحقيقة والمصالحة» بمقتضى قانون تعزيز الوحدة والمصالحة الوطنية لعام 1995، ومن مأثورات مانديلا فى هذا الإطار أن «التسامح الحق لا يستلزم نسيان الماضى بالكامل»، و«الظلم يسلب كلاً من الظالم والمظلوم حريته»، و«الشجعان لا يخشون التسامح من أجل السلام»، وما زالت عدة دول، لا سيما فى القارة السمراء، تستلهم تجربة «لجنة المصالحة والحقيقة»، فبدلا من العدالة العقابية وتقديم الجناة إلى المحاكم، اعتمدت اللجنة العفو المشروط أو الجزئى لتحقيق العدالة؛ ويعتقد العديد من الساسة والخبراء أن التجربة الجنوب أفريقية نجحت، لأنها لم تتهرب من ماضيها بل واجهته، وضرب مانديلا نموذجا فى الزهد فى الحكم، فبعد انتهاء ولايته الأولى عام 1999 امتنع عن الترشح لولاية ثانية وأعلن عن رغبته فى التقاعد، وخلفه نائبه تابو إيمبيكى ليصبح فيما بعد رجلا من حكماء الدولة، ركز على العمل الخيرى ومكافحة الفقر وانتشار الإيدز من خلال مؤسسة نيلسون مانديلا لمكافحة الإيدز، وصندوق نيلسون مانديلا للطفولة، كما كرس حياته للترويج للحكم الرشيد، والمساواة، والحرية فى أفريقيا وحول العالم، وكان من أشد المنتقدين للاحتلال الإسرائيلى لفلسطين، ويذكره العالم باعتباره أحد المعارضين للغزو الأمريكى للعراق عام 2003.