«الألباستر».. فن يقاوم الزمن.. ويقتله الإهمال ب«الأقصر»

حرفة توارثتها الأجيال من الأجداد العظماء القدماء المصريين، ومازالت مستمرة حتى يومنا هذا بقلب مدينة طيبة القديمة «الأقصر»، أنامل ذهبية تحول الحجر الصلب إلى تفاصيل دقيقة لقطعة أثرية غاية فى الجمال تسر الناظرين.
بدأ الفراعنة المسيرة وتركوا للأحفاد خطوات هذا الفن على جدران المعابد ليكملوا ما بدأوه، ولم يكونوا يعلمون أنه سيأتى يوم تسوء فيه الأحوال على هذا النحو من الإهمال.
هنا فى الجنوب لا تزال صناعة «الألباستر» تقاوم الزمن والإهمال الحكومى، والتى تعد من أهم الصناعات والحرف الرئيسية لسكان منطقة «القرنة» التى تقع على بعد نحو 9 كيلومترات من نهر النيل غرب الأقصر، ويعمل بها ما يقرب من 20 ألف عامل حتى باتت تمثل مصدر رزقهم الوحيد، فيما يواجه العشرات من أصحاب المصانع والمحال شبح الإغلاق بسبب ضعف السياحة وارتفاع الأحجار التى تستخدم فى الصناعة، ويتم جلبها من مرسى علم. يحكى «جمال يوسف مرسى»، صاحب مصنع «ألباستر» ومعرض للتحف بالقرنة إنه يعمل بهذه الصناعة منذ صغرة بالوراثة عن والده وجده، إضافة إلى توريث المهنة والفن لأبنائه، مشيراً إلى أنه يعمل بالمصنع 145 عاملاً.
وتابع «مرسى»: «القرنة تشتهر بصناعة الألباستر منذ سنوات طويلة وأصبحت مصدر رزق رئيسيا لسكانها وذلك لعدم وجود أى مصانع أو مهن أخرى به، وهذه الصناعة مرتبطة ارتباطا وثيقا بالسياحة وفى حالة تأثر السياحة تتأثر الصناعة وتصبح فنا بلا زبون وتتكدس فى المحال والمصانع».
ويضيف: «هذا الفن يعتمد على الأحجار سواء كانت الملونة أو العادية الموجودة بمرسى علم ويتم شراؤها سواء كانت بالقطعة أو الطن حيث يصل سعر القطعة الواحدة للأحجار الحمراء أو الصفراء إلى 2.25 جنية بعد أن كان سعرها 1 جنيه، فيما يصل سعر الحجارة المرمر إلى 8 آلاف جنية للطن»، مشيرا إلى أنه يتم تكسير الأحجار إلى قطع صغيرة ثم تشكيلها من قبل الصنايعة على هيئة الآلهة الفرعونيين مثل توت عنخ آمون.
وكشف «مرسى» أن هناك نحو 25 محل ألباستر أغلقت وقامت بتسريح العمالة عقب ثورة يناير بسبب الركود وضعف السياحة وعدم وجود موارد مالية للإنفلاق على العاملين، مشيرا إلى أن هناك ما يقرب من 20 ألف شخص يعملون فى هذه الصناعة بالقرنة بالوراثة إلا أنها تتعرض حالياً للهجر من قبل عدد كبير من العاملين بها، بسبب الركود الاقتصادى ومشاكل السياحة.
وقال إنه أنفق جميع ما لديه من أموال كسبها على مدار السنوات الماضية، من أجل الإنفاق على الصنايعية بالمصنع، متمنيا عودة السياحة مرة أخرى كعهدها الذهبى، لافتاً إلى أن وزارة السياحة لا تقدم أى مساعدات تذكر للعاملين فى هذا المجال، مطالباً الحكومة بالاهتمام بهذ الفن والفنانين القائمين عليه وأن توفر لهم سبل الحياة الكريمة من خلال إنشاء نقابة عمالية تدافع عنهم وتحافظ على حقوقهم من تأمينات ومعاشات ورعاية صحية، إضافة إلى عمل معارض لعرض الصناعات اليدوية بأسعار رمزية، واستغلال المؤتمرات والندوات الدولية لعرض المنتجات وتسويقها، مشيراً إلى أن القرنة تعد إحدى جامعات الحياة التى تستقبل الكثير من طلاب كليات الفنون الجميلة للتعرف على الصناعة والفن الخاص بالألباستر وتدريبهم على أيدى هؤلاء العاملين بالمجال وخاصة فى فصل الصيف.
ويروى «همام»، أحد الصنايعية العاملين فى «الألباستر» قصته مع المهنة قائلاً: «أعمل بهذا الفن الذى ارتبطت به منذ ما يقرب من 35 عاماً بعد أن توارثته عن آبائى وأجدادى منذ الصغر بهذه القرية، مشيراً إلى أنه يقوم بالنقش على الحجر بعد صنفرته وتجهيزه للرسم، وخاصة الحجر الجيرى، ثم يلونه وفقاً للألون الأصلية للآلهة المرسومة على المعابد، كما يقوم برسم جميع الأشكال وفقاً لطلب الزبائن سواء من السائحين الأجانب أو المصريين الذين يقومون بزيارة المصنع والتحف الموجودة بمنافذ المعرض الخاص بمصنع الألباستر.
ويلتقط منه طرف الحديث «أحمد» قائلاً إنه متخصص فى رسم الجعران من مادة الحجر الهمر، والذى يستغرق وقتا ومجهودا بدنيا كبيرا، فالجلوس طويلا على وضع معين قد يؤثر على الظهر ويتسبب فى حدوث الآلام والأمراض الخاصة بالعمود الفقرى، مشيراً إلى أن أغلبية العاملين بهذه الصناعة يهوونها، ولولا ذلك لتركوها منذ الثورة بسبب قلة الدخل والعائد المالى نتيجة الظروف الاقتصادية وقلة الزبون الأجنبى بسبب ضعف السياحة والرحلات السياحية وندرة الرحلات المصرية للمناطق الأثرية بالأقصر.
ويرى «حسان»، أحد كبار الصنايعة أن العمل الخاص بالألباستر يحتاج إلى مجهود كبير وصبر وخبرة، موضحاً أن معظم العاملين بالصناعة حصلوا على تعليم متوسط وبعضهم غير متعلم، ورغم ذلك ينتجون أعمالا فنية تضاهى الأعمال التى يرسمها الفنانون التشكيليون، مؤكداً أن بعض الأعمال والتحف تستغرق ما بين 3 أيام إلى شهر.
وأشار إلى أنه يقوم برسم العديد من الآلهة على الأحجار منها الملكة «أنوس» ويتم نحتها عن طريق صور فوتوغرافية لها أو نماذج جاهزة، لافتاً إلى أن الأحجار يتم الحصول عليها من مرسى علم وتستغرق من يومين إلى 3 أيام لنقلها.
ومن جانبه، قال اللواء سعد البدرى، رئيس مدينة القرنة، إن الألباستر تعد الصناعة الأولى لسكان المنطقة حيث توارثوها منذ مئات السنين، مشيراً إلى أنه فن راق يحتاج للخبرة والمهارة لتحويل القطع الحجرية إلى عمل فنى، موضحاً أنه يتم حاليا الاهتمام به وباقى الصناعات اليدوية كالبردى وسعف النخيل من خلال تقديم اقتراحات لمحافظ الأقصر بعمل معارض لهذه الصناعات على هامش عقد الندوات والمؤتمرات الدولية التى تعقد بالأقصر وخاصة التى تشارك فيها الدول الأجنبية، فضلاً عن وضع العاملين بالمجال تحت مظلة واحدة لهم كنقابة خاصة بهم للحفاظ على واجباتهم والبحث عن مصادر جديدة لتسويق منتجاتهم خارج مصر، كعمل معارض لهم فى السفارات الخارجية من خلال البروتوكولات التى تتم مع الدول الأخرى.