كتب: أسامة درة السلفيون يتكلمون كثيراً هذه الأيام .. ينشرون أفكاراً غيرَ معالَجة، نيّئة، خام .. لقد كانوا مُجبَرين عهداً طويلاً ألا يشاركوا، و الآن انفتح لهم الفضاء العام و هم لا عهد لهم به .. يتشككون في مفهوم "مدنية الدولة"، فهم ككل المتدينين لا يثقون بالألفاظ ال "غير الإسلامية"، ك "المواطنة" و "الديمقراطية" و "الليبرالية"، لكنهم أشد حساسيةً و انغلاقاً من المتدين العادي .. يدعون إلى دولة إسلامية .. و الحقُّ أني لا أعلم أنّ في الدنيا شيئاً اسمُه "الدولة الإسلامية" .. فالإسلام إلهامٌ و روحٌ و مبادئُ و إطارٌ عامٌّ فيه قليلٌ من التفاصيل . لا تسئِ الظنّ بي، فأنا أعيشُ أحلمُ بالدولة الراشدة العادلة المتأسسة على العدل و الأخلاق كما يريد الله .. لكني كذلك أعلم أن الإسلام ليس فيه طريقة لاختيار الحاكم، و لا آلية عزله، و لا كيفية انتخاب أهل الحل و العقد، و لا تركيب مؤسسات الدولة، و لا تنظيم عملية التقاضي ابتداءً بصكّ القوانين وصولاً إلى إصدار الأحكام النهائية، و لا، و لا، .. و ترك -سبحانه- كل هذا لاجتهاد البشر .. هؤلاء و من شايعهم ينسبون للدين ما ليس فيه، فالله لم يُنزل من السماء نظريةً لبناء الدولة .. و الراجح عندي أنهم يريدون دولة يُستفتى فيها الفقهاء في الحِلّ و الحُرمة قبل كل قرار، و هذا يبدو حسناً و يسهُل تسويقه للعامة، لكنّ تطبيقه شيءٌ آخر . خطابهم هذا لا يمكن الرد عليه .. من يردّ يبدو للناس أقلّ وفاءً للدين منهم، و أكثرُ السياسيين و الباحثين يتجنبون هذا الموقف .. و من يردّ يجد نفسه يقول كلاماً يشبه كلام "العلمانيين"! .. و هي تهمة رهيبة كما لابد أنك تعلم! .. و أنا مقتنعٌ أنّ العلماني لديه أفكار عظيمة، لكنّ العلمانيين في بلادنا اعتادوا أن يضيفوا لأفكارهم نبرة ضيق بالتدين و المتدينين، فرفض الناس أفكارهم بجُملتها، حتى أصبحت "العلمانية" لفظة لا تقل خطورة عن لفظة "الكُفر" .. و تسويق هذه الأفكار المنيرة يستلزم تجنب الكلمات "سيئة السمعة" .. و قليلون يجيدون هذه الصنعة . العلمانية (لدى العلمانيين العرب) هي موقفٌ من رجال الدين الذين يجعلون رؤاهم هي الدين، فيحاصرون بها السياسيين و يُلغّمون المجال العام، و لو كانوا غيرَ ذوي خبرة و لا يفقهون من الدنيا سوى ما في الكتب التي ورثوها عن الأسلاف (و هي كتبٌ قيّمة، لكنها لا تكفي) .. و هي موقفٌ من الحاكم الذي يخلط وظيفته السياسية بمكانةٍ دينية يبرر بها أفعاله و يضمن بها انتصاراتٍ على خصومه السياسيين، أو يحتمي بطبقةٍ من رجال الدين تُحصّن قراراته بفتاوى تصدّ عنه هجمات منتقديه .. و بذلك نحن -المسلمين- لا نحتاج العلمانية، فالإسلام عندنا ليس مِلك أحد، فهي حلّ ليست له عندنا مشكلة (إلا لو خلق السلفيون هذه المشكلة)، لكنها كذلك فكرة لا نرفضها فالإسلام جاء بمِثلها .. لكن احترس، هذ كلام بيني و بينك، لا تقله لأحدٍ و إلا قالوا أنك علماني! .. و ساعتها سيتركونك ويتبعون السلفي ! بعض الأفكار فَشَت في مجتمعنا، لا لأنها مُقنعة أو مفيدة، و إنما لأن الظرف العام يسهّل انتشارها .. فالتدين اللاعقلاني المحشوّ بالهتافات و الشعارات و لا يقدم أبداً برامج أو حلولاً، هذا النوع من التدين لم يصبح رائجاً لأنه جذابٌ، لكن لأن المناخ يسمح برواجه .. و لو كانت البلد حرةً ليشارك هؤلاء في بنائها طوال العقود الفائتة، لكانوا الآن يطرحون معنا أفكاراً ناضجة صالحةً للتطبيق .. لكنهم حوصروا في مساجدهم و استخدمهم جهاز الأمن في مهامّ وضيعة لضرب متدينين آخرين، فلا يمكن بعد هذا أن نجدهم تياراً حضارياً عبقرياً . لا يمكن درء خطر هذه الأفكار على عموم الناس بنقاشات ودّية مفتوحة نبدو فيها أقلّ تمسكاً بالعقيدة من أصدقائنا ذوي اللُحى .. هذه النقاشات لا بد منها، لكنّ الأجدى مكافحة الحالة التي أدت لنفاذ هذه الأفكار للعقول . ----------------------------------------------------- أسامة درة..مؤلف كتاب: "من الإخوان.. إلى ميدان التحرير"