أتابع قليلاً المظاهرات في سوريا . عرفت أنهم يقولون فيها شعاراتٍ مثل: "شدي حيلك يا بلد، الحرية بتتولد" . لابد أن شاباً متحمساً يقود المظاهرة و الأهالي يقولون ما يقول، لا أكثر . فكلمة "الحرية" كانت محذوفة من قاموس المواطن السوري قبل أقل من شهر . لكنّ أهل سوريا -وغيرها- يتلقفون هذه المفردات المثيرة بشغفٍ هذه الأيام . ليس لأنهم يدركون أنهم يحتاجون "حرية"، و إنما لأن هذه الهتافات تغيظ من يقمعهم . المواطن العربي يدرك أنه يحتاج الطحين..الوظيفة..الأمن، لكنه لا يفهم كثيراً مسألة "الحرية" هذه . و لولا العنف الذي وجهته لهم السلطة لما خرجوا كما خرجوا و ما قالوا ما قالوا . و هذا ما يحدث كل مرةٍ منذ بداية هذا العام المجيد: الحاكم يضرب بقسوة و يُسيل دماً، فلا يهدأ الناس قبل أن يُسقطوه . فلا يحركهم ساعتها شيء كما يفعل الغضب و "العِند"، و يصبح المبدأ و الحق في زاوية اللقطة ! في مصر، يوم 10-فبراير-2011، قبل يومٍ من خلع مبارك، هل تذكرون هذا اليوم؟ . كانت الأغلبية في بلدي تقول: "خلاص بقى، هما عايزين ايه لسه؟! الراجل قال مش هيترشح، مش عارفين يستنوا لسبتمبر؟!" . تذكرون هذا، أم أنسانا النصرُ ما كان؟ . و يوم 11-فبراير صدر بيانٌ من خمسة شبانٍ، أبرزهم وائل غنيم، يدعو الواقفين بالتحرير لفض اعتصامهم حذراً من "حمّام دم" محتمل . لكنّ الواقفين بالتحرير، الذين لم يكونوا ممثلي أغلبية الشعب، كانوا لا يسمعون كلّ هذا و كان يحركهم "العِند" . ربما قالوا لك: "فساد النظام" أو "دم الشهداء" . لكني أقول لك: هو "العِند"!، و إلا فلماذا سكتوا عن النظام كل هذه السنين؟! . و أغلب أهل الميدان يومها لم يكونوا من أرباب "النضال" المعتادين و لا شاركوا في مظاهرة قبل 25-يناير، و ما أعطاهم كل هذه الصلابة غيرُ الغضب . شهد مؤتمر شباب الإخوان الشهير الذي عُقد بالدقي قبل شهرٍ "حالة عِند" أخرى، لكنها أخفّ . كثيرون لم يحضروا المؤتمر إلا لمّا عرفوا أن مكتب الإرشاد خذل منظميه . عندما دخلت قاعة المؤتمر، قال لي أحد أعضاء لجنة النظام: "الإخوة في مكتب الإرشاد فشخونا يا أسامة، بعتوا رسايل للمكاتب الإدارية يحذروهم من الحضور، و قالوا لهم دول عيال بايظة و بتوع بنات" . هذا الموقف استدعى للمؤتمر تعاطفَ المجتمع، و اهتماماً كثيفاً من الصحافة . و لولا محاولة الإجهاض الفاشلة لاكتفى كثيرٌ من شباب الجماعة بقراءة أخبار المؤتمر و مشاهدة صوره على الفيس بوك، لكنهم شاركوا بدفعٍ من الدهشة و الغضب . المسئول الحكيم هوالذي لا يوصل الناس للعِند، فهو لا قِبَل لأحدٍ به . فالقمع لا يمحو مطالب الناس أو أفكارهم، إنما يلهبها . و من يرى لنفسه قوةً أو كثرةً و يستقلّ قدرة الجماهير، يخسر . و حين يحلّ العِند لا ينفع ذا السلطة أنّ في الناس أغلبية أليفة و مُستأنَسة. عندها تختطف الأقليةُ العنيدةُ الرأيَ العام و تكتسح ما يعترضها . و هذا من حسن حظنا، فلو تُرك الأمر للأغلبية (المستسلمة، أو المُثبّطة) لما نلنا الحقوق و لا رحل المستبد . ----------------------------------------------------- أسامة درة..مؤلف كتاب: "من الإخوان.. إلى ميدان التحرير"