وزير التعليم العالي: تجهيز الجامعات الأهلية بأحدث الوسائط التعليمية والمعامل    «المحامين» تعلن بدء الإضراب العام الأربعاء المقبل بعد تصويت الجمعية العمومية    رسميًا بعد انخفاضه.. سعر الدولار مقابل الجنيه المصري اليوم الإثنين 23-6-2025 في البنوك    غلق وتشميع 8 محلات مخالفة في حملة مكبرة ب العاشر من رمضان    احتفالية " Egypt Car of the Year Award" في دورتها الخامسة عشرة تؤكد ريادتها إقليميًا ودوليًا    "محلية النواب" توافق على منحة بقيمة 7.5 مليون دولار لإنشاء مركز محاكاة للتدريب    ارتفاع مؤشرات البورصة بمستهل تعاملات جلسة الإثنين    محافظ المنوفية يلتقى يتيمتين من ذوى الهمم ويوجه بإيداعهما دار كبار بلا مأوى    أبو الغيط يدين الهجمات الإيرانية على قاعدة أمريكية في قطر    قبل مباراة إنتر ميامي وبالميراس.. ميسي يمطر شباك الفرق البرازيلية بالأهداف    تحذيرات من حالة الطقس في مباراة تشيلسي والترجى التونسي    7 أخبار رياضية لا تفوتك اليوم    محلل أداء الأهلي السابق: ريبيرو يختلف تمامًا عن كولر    حريق بمخلفات في المنطقة الصناعية بطريق المطار بالغردقة    إصابة 7 أشخاص في حادث انقلاب تروسيكل بالمنيا    ضبط مركز علاج طبيعي غير مرخص يديره أخصائي علاج طبيعي وينتحل صفة طبيب جلدية وتجميل بسوهاج    الهلال في كأس العالم للأندية.. محمد حسن علوان فاز بالبوكر عن "موت صغير"    خبير: إيران فى مأزق الرد.. ونتنياهو يجرّ الشرق الأوسط إلى مواجهات خطيرة    أسامة عباس: دخلت التمثيل بالصدفة.. وكنت أمارس المحاماة في البداية (فيديو)    جريدة مسرحنا تفتح ملف آمال المسرحيين وتتابع أبرز عروض الموسم في عددها الجديد    جامعة القاهرة: إدراج 3 مجلات علمية فى تصنيف كلاريفيت يعكس قوة البحث العلمى    مجمع البحوث الإسلامية في اليوم الدولي للأرامل: إنصافهن واجب ديني لا يحتمل التأجيل    هل من حق الزوجة معرفة مرتب الزوج؟.. أمينة الفتوى تُجيب    الرعاية الصحية تطلق الفيديو الخامس من حملة «دكتور شامل» لتسليط الضوء على خدماتها لغير المصريين    الدكتور خالد عبدالغفار: مصر حريصة على ترسيخ شراكات أفريقية مستدامة في المجال الصحي    الكنيسة تنظم قافلة طبية شاملة لخدمة أهالي زفتى وريف المحلة الكبرى    تركيا تبرم اتفاقية مع الأونروا لاستضافة مكتب تمثيلي للوكالة بأنقرة    أزمة في ليفربول بسبب محمد صلاح    تأجيل محاكمة 35 متهمًا في قضية "شبكة تمويل الإرهاب الإعلامي" إلى 26 يوليو    طائرتان تابعتان لسلاح الجو الألماني تقلان 190 مواطنًا من إسرائيل    وزير الخارجية الفرنسي يطالب بضرورة وقف الهجمات على إيران منعًا للتصعيد    "حقوق إنسان النواب" تطالب بتعزيز استقلالية المجلس القومي وتنفيذ توصيات المراجعة الدولية    الاتحاد الأوروبي يفرض عقوبات على 5 أشخاص مرتبطين ببشار الأسد    صندوق النقد: مخاطر أوسع على النمو العالمي بعد الضربات الأمريكية لإيران    اعتراضا على رفع رسوم التقاضي.. وقفة احتجاجية لمحامي دمياط    الخميس 26 يونيو إجازة مدفوعة الأجر للعاملين بالقطاع الخاص    فيلم "المشروع X" يواصل التألق 117 مليون جنيه في 5 أسابيع    البورصة تواصل الصعود بمنتصف تعاملات اليوم    وظائف شاغرة في الهيئة العامة للأبنية التعليمية    سامو زين يستعد لبطولة فيلم رومانسي جديد نهاية العام | خاص    فى ذكرى ميلاده ال 85، أمل دنقل رائد شعر الرفض وهذه أبرز قصائده عن فلسطين    مصرع عامل وإصابة اثنين آخرين في انفجار غلاية مصنع منظفات بأسيوط    انتهاء رفع أنقاض "عقار شبرا المنهار".. ولا ضحايا حتى الآن | فيديو وصور    ما هي سبب بداية العام الهجري بشهر المحرم؟.. المفتي السابق يجيب    السيسي يُعلن تدشين مقر جديد للمكاتب الأممية الإقليمية بالعاصمة الجديدة    حوار - جوزيه يتحدث عن غضبه من مدير الكرة بالأهلي وعروض الزمالك.. ورأيه في كأس العالم للأندية    وزيرة البيئة تبحث مع محافظ الوادي الجديد فرص الاستثمار في المخلفات    تناول هذه الأطعمة- تخلصك من الألم والالتهابات    مي فاروق تحيي حفلا بدار الأوبرا مطلع يوليو المقبل    وزير التعليم العالي يضع حجر الأساس لمركز أورام الفيوم    الطائفة الإنجيلية بمصر تنعى شهداء «مار إلياس» بدمشق    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الاثنين 23-6-2025 في محافظة قنا    الحبس والحرمان، عقوبة استخدام الطلبة اشتراك المترو بعد انتهاء العام الدراسي    ديانج يعلق على مواجهة الأهلي وبورتو    حكم الشرع في غش الطلاب بالامتحانات.. الأزهر يجيب    أمريكا تُحذر من مظاهرات مناهضة للولايات المتحدة في الخارج    شديد الحرارة والعظمى في القاهرة 35.. حالة الطقس اليوم    احتفاء رياضى باليوم الأوليمبى فى حضور وزير الرياضة ورئيس اللجنة الأولمبية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ثورة الگباش
وهل هناك أجمل من أن يموت ولدي شهيدًا؟
نشر في أخبار الأدب يوم 30 - 04 - 2011

لم يكن يوم الخميس 27 يناير 2011 يوما غير عادي بالنسبة لي ، فلقد قضيته كالمعتاد فيما بين أعمالي وعيالي، ولم يكن هناك ما ينذر بالزلزال الذي سيقع غداً بعد صلاة الجمعة، فكل المعطيات رغم وضوحها لم يكن ممكنا تفسيرها بأن معجزة باهرة ستتم علي يد شعب مصر، فما يجري في السويس منذ يومين من مظاهرات هو أمر شبيه بما جري من أحداث في مدينة المحلة قبل حوالي ثلاث سنوات، أما اضطرابات القاهرة فهي شبيهة بما هو جار فيها من حراك سياسي عنيف مستمر منذ أكثر من سنتين، الذي يحدث إذن ليس أكثر من استمرار لحالة اضطرابات تنتاب مصر منذ فترة. و في الليل وبعد أن صليت العشاء ذهبت كالمعتاد لقضاء بعض الوقت مع صديقي الشاعر حسين القباحي في دكانه الذي يبيع فيه الأدوات المكتبية والهدايا ولعب الأطفال، وكان يجلس معه ابن أخت له اسمه عبد الله، كان ما يجري في القاهرة والسويس هو محور حديثنا، وقلت إن الأمر يحتاج لثورة في كل بلاد مصر، لا في مدينة أو مدينتين ، وقال حسين القباحي أنه في يوم ما ستجتاح الثورة كل بلاد مصر، لكن عبد الله قال: "غداً ستخرج مظاهرة من مسجد صلاح الدين" ، كان ما قاله عبد الله مفاجئاً ومدهشاً لي تماماً، حتي أنني ولأول وهلة لم أصدق، وقلت له: "أتتكلم جاداً؟!!.. أهناك مظاهرات ستخرج غداً في الأقصر؟!!"، فرد: "نعم .. هناك مظاهرة ستخرج من مسجد صلاح الدين وأنا مشارك فيها"، فقلت: "وأنا سأصلي الجمعة هناك".

تركت القباحي وعدت إلي المنزل، وحول طعام العشاء جلست مع زوجتي وأولادي الثلاثة، كنا نشاهد التلفاز، وكانت القنوات الفضائية الإخبارية تعرض ما يحدث في السويس والقاهرة من اضطرابات، فعلقت: "يقولون غدا ستخرج مظاهرات في الأقصر"، هتف ابني الأكبر "محمد" متسائلاً: "والله يا أبي .. من أين ستخرج؟"، قلت: "من مسجد صلاح الدين". "محمد" فتي يافع عمره يقترب من السادسة عشرة، هتف بحماسة أكبر: "أنا سأخرج في هذه المظاهرة" ، "أم محمد " كانت قد رأت الناس الذين قتلوا في مظاهرات تونس فصرخت في وجه محمد : "إياك تخرج" ثم زغرت لي بعينيها وقالت: "و أنت كمان ".
ازدردت اللقمة التي كنت آكلها و قلت: "لو وجدت مظاهرة سأخرج فيها ولو انقلبت السماء علي الأرض، ومحمد أيضا سيكون معي"، ارتخي صوتها وإن كان يحمل نبرة اعتراض قوية "طيب أخرج أنت ، لكن الولد لأ" ، ضحكت وقلت: "إذن أنا لست مهماً"، قالت: "المسألة ليست هكذا. أنت تستطيع التصرف مع ما سيجري بحكمة أما محمد فهو مازال طائشاً و قد يرمي بنفسه في مهالك المظاهرة "، قلت : "أقصي ما سيحدث لمحمد هو الموت ، وإن حدث فهل هناك أجمل من أن يموت ولدي شهيداً"، و قلت بينما دموع خفيفة طلت مقلتي "أم محمد": "لكن إن عاش ونجحت المظاهرة وانقلب الأمر إلي ثورة ونجحت الثورة فسيظل عمره كله يفخر بنفسه، سيحكي في مجالس السمر مع أقرانه عنها، وسيحكي عنها مع أولاده، عندما تصير مصر أجمل بلاد الله سيكون بمقدوره أن يستلقي علي قفاه وهو غارق في الضحك ويقول أنا من جعلت مصر أجمل" ، قلت لأم محمد: "هااه.. هل مازلت تريدين حرمانه من كل هذا الشرف؟!!".

هذه هي جمعة الغضب ، و ما أن قال إمام مسجد صلاح الدين "السلام عليكم .. السلام عليكم" منهياً صلاة الجمعة حتي هب أغلب المصلين إلي خارج المسجد، وبالفعل كانت هناك مظاهرة، ناس يزيد عددهم علي الألف، تحركوا من أمام المسجد إلي شارع التليفزيون، وهو من أكبر شوارع الأقصر، كانوا يسيرون بسرعة وكأنهم يشيعون ميتاً جثته منتنة، وكان الهتاف الوحيد هو "الشعب يريد إسقاط النظام" ، ومع كل متر تقطعه المظاهرة كان العشرات من الناس ينضمون إليها، كنت أهتف بأعلي صوتي، لكن أين صوتي؟!، من يجاوروني في المسيرة كانوا أيضا يهتفون بأعلي أصواتهم، كانت عروق رقابهم النافرة تؤكد هذا، لكن أين أصواتهم؟!، كان ثمة صوت واحد يرعد، صوت خارق، صوت جبار فلق جدران الصمت وخرج يمزق سنين الذل و المهانة، "الشعب يريد إسقاط النظام" ، أصواتنا كآحاد انمحت، وتجلي هذا الصوت المهيب لكائن بالغ الضخامة والعظم يمتد متماهياً في كل بر مصر اسمه الشعب، أنظر إلي الناس حولي، ليست هذه وجوه أهل الأقصر التي أعرفها، الوجوه المخادعة التي تتلون بحسب ألوان أوراق العملة الصعبة، الوجوه المستكينة لأي قهر طالما أنها توهب أي نوع من أنواع الحياة و لو كان رديئاً، الوجوه التي حولي الآن يكاد الدم يتفجر من عروقها، ولا يكاد الدم يتفجر من العروق إلا بدفع قلب قوي، ولا تقوي القلوب إلا عندما تبرأ من الخوف، والناس ملأوا الشوارع ويهتفون "ارحل.. ارحل.. ارحل«، أي غضب هذا الذي جعلني أطيح بذراعي في الهواء بقبضة مضمومة وأزعق بأعلي صوتي "باااطل"، كان هناك شاب محمولاً علي كتفي آخر يهتف "حسني مبارك" ونحن نردد خلفه "بااطل"، "جمال مبارك" "باااطل"، "الحزب الوطني" "بااااطل"، كنت حريصاً علي أن أتابع نمو المظاهرة، وكانت المظاهرة في منتصف شارع التليفزيون قد جاوز عدد المشاركين فيها الخمسة الآف، وأثلج هذا قلبي قليلاً، فالأقصر مدينة ذات طابع خاص في كل شيء، وهي أكثر خصوصية فيما يخص طبائع أهلها، فهم يعيشون علي السياحة، و يكرهون كل ما قد يكون سبباً في زعزعة استقرار أكل عيشهم، وهذه المظاهرات ستكون بالتأكيد عامل قلق للسياح، وسيتهدد المستقبل، ولقد اعتقدت طويلاً أن أهل الأقصر بالذات لن يتظاهروا أبدا إلا انتصاراً لقضية سياحية، ومن هنا كانت دهشتي، ومن هنا كان حرصي علي أن أتابع نمو المظاهرة، ومن حين لآخر كنت أري ابني "محمد" بين المتظاهرين، وكنت أنظر إلي وجهه فأحمد الله علي أني لم أحرمه هذه السعادة الغامرة التي غطته، لكني في كل مرة كنت ألمحه فيها أسأل نفسي "هل ستتجه المظاهرة إلي منطقة مجنونة من العنف والمواجهات مع الشرطة والأمن المركزي؟"، وأسأل نفسي "هل من الممكن أن يصيب مكروه ما ابني الذي سررت به، ابني البكر، ابني الذي قارب طوله طولي و اشتد ساعده واقترب من أن يكون متكئي؟"، رفعت وجهي إلي أعلي و نظرت إلي العمائر التي علي جانبي الشارع المتسع، كانت البلكونات ممتلئة بالناس الذين كانوا يلوحون بأيديهم، ويلوحون بالأعلام، وكذلك كانت أسطح العمائر، قلت لنفسي "لو حدث مكروه لمحمد ستموت أم محمد" ، علا صراخ الناس "يا مبارك يا جبان .. يا عميل الأمريكان"، كانت هذه المقطوعة من الهتاف هي المقطوعة التي ضعضعت روحي، يا مبارك يا جبان، يا عميل الأمريكان، ما الذي أذله من بعد عز؟!، ما الذي جعله يشارك في ضرب العراق؟ ما الذي جعله يري دماء أطفالنا في لبنان وفلسطين وفي كل مكان عربي ومسلم ثم لا يحرك ساكناً؟، ثم ما الذي جعله يشارك بنفسه في إراقة دماء أطفالنا وأهلنا في غزة لما سمح لإسرائيل بكل قوتها العسكرية أن تضربها لثلاثين يوماً متصلة، غزة التي أهلكها حصاره هو نفسه لها؟، إذن يستحق مبارك هذا الهتاف الذي انطلق هادرا "يا جمال قول لأبوك.. الصعايده بيكرهوك"، كانت المظاهرة قد احتشدت تماماً، والآن أكثر من عشرة الآف متظاهر يسيرون حثيثاً إلي اتجاه يبدو لمنظميها معلوماً تماماً، انتشيت من ضخامة العدد فتذكرت القباحي، طلبته علي هاتفي النقال فجاءني صوته نشيطا "أين انت؟" قلت "أنا في المظاهرة.. و أين انت؟"، قال "أنا في البيت.. المظاهرات في كل بلاد مصر وأنا أتابعها عبر التلفاز"، كان الصوت غير مسموع بسبب الهتافات، ولم تكن المظاهرة قد عبرت حتي الآن أي تجمع أمني، ولم نلحظ وجود أي شرطي في أي مكان، وحتي عساكر المرور اختفوا، لكن ها نحن نتجه إلي مبني مديرية الأمن في شارع المدينة المنورة ، واحسست بخطي الناس تتسارع، وعيونهم تجحظ نحو المبني المهيب، وكأنهم قد قرروا بدون اتفاق مسبق أخذ ثأرهم من هذا المبني، وارتفع وقع الهتاف إلي غاية المنتهي، "الشعب يريد إسقاط النظام"، ورأيت محمد من بعيد يهتف مع الهاتفين، ورأيت مبني مديرية الأمن يقترب، ورأيت خطراً يدنو، ورأيت كأن محمدا قد اخترقت رأسه رصاصة غادرة وسقط بين الأقدام، "لا.. لا.. يكفي أن أسير أنا في المظاهرة، علي الأقل لو مت سأعرف لماذا مت، لكن محمد مازال صغيراً، لعله الآن يمشي وهو لا يفهم ما الذي يجري بالضبط، لعله يظنها مظاهرة كتلك التي ملأت الشوارع لما فاز فريق الكرة بكأس إفريقيا، فهل أتركه يموت ويبذل روحه لأمر لا يفهم الحكمة فيه؟، يجب إذن أن يعود محمد إلي المنزل، يجب أن يعود فوراً"، كان محمد قد غاب عن ناظري الآن، فأخرجت هاتفي النقال وطلبته، رد علي "نعم يا بابا"، قلت له "يا محمد.. خللي بالك من نفسك" وأغلقت الخط.

"نحن الشعراء.. أفراس خضراء.." ثم هذه الأفراس تتحرك فقط علي الأوراق، هذا ما رسخ في ذهني من قصيدة جميلة لفتحي عبد السميع، والشعراء أدباء، والشعراء في القرآن في كل واد يهيمون، ثم الأهم انهم يقولون ما لا يفعلون ، أعتقد أنه لا يتحدث عن المثل و الفضائل أحد بقدر ما يتحدث عنها الأدباء، لكن للأسف الشديد عند الجد تبدو الحقائق المخزية ، ها انا الذي أملأ الدنيا صراخا بأنه لن نتحصل علي أي شئ جميل إلا بالتضحيات كدت أضن بولدي ، كادت تغلبني أبوتي ، و نسيت أنني أديب ، رائد القوم إلي أبواب الحضارات ، الذي ينغرس الشوك في قدميه فيرفعه ليلقي به بعيدا حتي لا يدوس عليه الآخرون ، أنا أديب و هذه منزلة أرفع مما يظنون ، و حتي أبقي هناك لابد من التضحية ، و إذا كان محمد لا يفهم ما يفعله الآن و مات فيوما ما يمكنني أن أجلس علي قبره و أشرح له لماذا هو مات ، لماذا غلبتني الدموع الآن وملأت عيني ؟ هل لأنني الآن أري ما لم أتخيل يوما أن أراه ، الناس يلقون بالحجارة مبني مديرية الظلم و القهر و هم يهتفون " حرية .. حرية .. حرية " ، أم لأنني تخيلت ابني البكري و قد فارقته الحياة ؟ ، في هذه اللحظة تمنيت لو أراه ، حتي أنظر إليه جيدا و أملأ عيني بملامح وجهه ، أين هو ؟ ، كانت الحجارة تمطر مديرية الأمن ، و كنت أبحث عن محمد ، لأنه يهيأ لي الآن أنه طوال خمسة عشر عاما أو يزيد قليلا لم أحفظ تماما ملامح وجه محمد ، حتي ابني الثاني مصطفي ، و كذلك عبد الله ، لكن محمد من يلح علي الآن ، لأنه هو الذي يواجه معي الخطر .

لم ينصرف الناس عن مبني مديرية الأمن إلا عندما علا هتاف منظموا المظاهرة " سلمية .. سلمية .. سلمية " ، و ما هي إلا بضع عشرات من الأمتار حتي تكرر ما حدث لمبني مديرية الأمن مع مبني مركز الشرطة ، و تحطم زجاج بعض سيارات الشرطة ، و علا أيضا هتاف " سلمية .. سلمية " ، و انصرفت المظاهرة لتكمل طريقها ، و كانت طريقها تقطع منطقة غاية في الأهمية بالنسبة للأقصر ، شارع خالد بن الوليد ، الشارع المملوء بأهم الفنادق و أكبرها ، و فيه الفندق الذي كان حسني مبارك يفضل النزول فيه عند زيارته للأقصر ، كان السائحون قد ملأوا شرفات الفنادق ، يصورون بكاميراتهم و بأجهزة المحمول هذا الذي يجري أمامهم ، هم يملكون من الثقافة و الوعي ما يجعلهم يدركون أن ما يجري أمامهم هو حدث تاريخي بكل ما لهذه الكلمة من معني ، و أنه لايجب أن يمر دون أن يسجلوه ، ليفخروا هناك في أوروبا أو في أي بلد في العالم أنهم عايشوا هذا الحدث ، وأنهم كانوا جزءا من الصورة و لو كمتفرجين ، و عندما مرت المظاهرة بين الفنادق علا الهتاف » فريدم .. فريدم « ، " موباراك .. جو .. جو " ، و تفاعل الأجانب مع المتظاهرين و أخذوا يشيرون إليهم بعلامة النصر و يضحكون ، و كأن منظمي المظاهرة قد خافوا أن يعتدي المتظاهرون علي الفندق الذي كان يفضله مبارك فأخذوا يهتفون " سلمية .. سلمية "، و بالفعل لم يتم الإعتداء علي أي فندق ، لكن المظاهرة كانت قد وصلت إلي مجمع المحاكم ، فأخذ البعض يقذفون المبني بالطوب ، فأصيب زجاج إحدي سياراته ، و علت مرة أخري صيحات " سلمية .. سلمية " ، لكن أين محمد ؟ كان قد مضي وقت طويل دون أن أراه ، طلبته علي هاتفي فلم يرد هذه المرة ، و خفق قلبي ، و عندما علا رنين هاتفي رفعته إلي أذني متلهفا لسماع صوت محمد ، لكن كان القباحي هو المتصل " ما الأخبار عندك " قلت " جميلة جدا .. المظاهرة كبيرة " قال " كم عدد المتظاهرين تقريبا " قلت " يفوق الثمانية آلآف .. ربما عشرة " قال مندهشا " معقول ؟! " ، قلت " نعم " ، قال " أين أنتم الآن " قلت " علي الكورنيش .. نحن متوجهون إلي مبني المحافظة " ، كانت قد تراءت لي أعداد غفيرة من الأمن المركزي تسد الطريق إلي المحافظة ، كانت هذه أول مرة نري عساكر الأمن المركزي منذ بدأت المظاهرة في التحرك .

كان هدف المظاهرة هو الوقوف أمام مبني المحافظة بصفته المبني الذي يمثل أعلي سلطة في الأقصر ، و إعلان الرغبة في إسقاط النظام هناك ، لكن بظهور هذا السياج الأمني الكثيف تأكد للمتظاهرين أنهم سوف يمنعون من تنفيذ هذه الرغبة ، فبدأ المتظاهرون بإلقاء الحجارة علي عساكر الأمن المركزي ، كان يمكن لهؤلاء العساكر ألا يحركوا ساكنا ، فالحجارة لن تؤذيهم و هم قد تدرعوا بدروع تحميهم تماما ، لكن فوجئ المتظاهرون بالقنابل المسيلة للدموع تنطلق كالمطر ، و فوجئت أنا بمحمد و هو في الصف الأمامي بمواجهة العساكر يقذفهم بالحجارة ، ناديت عليه و قد انخلع قلبي تماما ، لكنه لم يسمعني ، فالخطر لم يكن يواجهه من ناحية العسكر و فقط ، و إنما كان يحدق به من الخلف أيضا ، من المتظاهرين أنفسهم الذين كانوا يقذفون الطوب بغزارة ، و من الحجارة ما كان عزمه ضعيف ، لا يصل إلي العساكر و إنما يسقط علي المتظاهرين الأماميين ، اندفعت نحو محمد فرآني ، صرخ ناحيتي " ابتعد يا أبي " ، كانت رائحة الدخان المسيل للدموع لا تطاق ، صرخت فيه » ابتعد أنت .. هيا ابتعد فورا« ، عاد محمد للخلف متذمرا ، و صارت هناك مسافة واسعة بين المتظاهرين وبين الشرطة ، لكن الرشق المتبادل بالطوب و القنابل المسيلة للدموع اشتد ، و ضاعت بين أصوات السعال و أصوات فحيح القنابل وهي تتلوي علي الأرض بينما تنفث بقوة سمها الدخاني الأبيض أصوات تزعق " سلمية .. سلمية ، في هذا الطقس الحربي نجح بعض العقلاء في إقناع قادة العساكر ألا يطلقوا القنابل المسيلة للدموع ، فعاد المتظاهرون و بينهم أنا إلي الإقتراب من العساكر في محاولة لإقناعهم بإفساح الطريق لنا ، و لما لم تفلح المحاولات دفع المتظاهرون بأجسادهم صف العساكر ، وعندما كاد المتظاهرون أن يخترقوا هذا الصف أنطلقت القنابل مرة أخري ، و إذا بأحدهم يرش في وجهي دخانا أحمر من علبة تشبه علبة اسبراي الألوان ، و إذا بي أشعر و كأن نارا تأججت في صدري ، و بينما كان نفسي ينقطع اصطدمت بقدمي قنبلة الدخان المسيل للدموع ، و اختنقت تماما ، أين محمد ؟ ، أخذت أبحث عن هواء أتنفسه ، لكن لم يكن هناك هواء ، كانت هناك نيران فقط هي التي تخترق أنفي ، و سمعت أذان العصر " الله أكبر .. الله أكبر " ، و وجدت رصيف ، و وجدت شمة هواء ، وأخذت أسعل بشدة و شلال دموع ينهمر من عيني .

لقد غضبت كل البلاد في بر مصر ، لكن غضبة الأقصر تبقي المميزة، لأنه هناك غضب التاريخ أيضا، وفي الوقت الذي كان الناس يملأون شوارع الأقصر مطالبين بتغيير النظام، كانت هناك مئات من الكباش الصخرية تمشي الهوينا في طريقها إلي معبد الكرنك وقد تقدمها الكاتب المصري يقبض بإحكام علي لفافة بردي ليقدمها إلي الملك رمسيس، فيها "التاريخ يريد مصراً جديدة كفي عفناً"، بعد جمعة الغضب، صار النظام كشجرة مغروسة في الأرض وقد انفصلت تماما عن جذورها، وصارت أية هبة ريح قادرة علي إسقاطها، لكن عواصف الرفض الشعبي لبقاء النظام الديكتاتوري والفاسد التي هبت في الجمعات التالية لم تكتف بمجرد إسقاطها، وإنما طيرتها إلي حيث ألقت بها في فيافي الهوان، مضت جمعة الغضب و جاءت جمعة الرحيل، ومضت جمعة الرحيل وجاءت جمعة التحدي، و مضت جمعة التحدي وجاءت جمعة الصمود، وقبل أن تمضي جمعة الصمود كان الفساد يعلن رحيله.

في جمعة النصر، في المساء، جلست مع أسرتي، نظرت إلي محمد وقد كان يوما سرق مني بعض نقود.
: "هل تسرق بعد اليوم؟ ". بدا محرجاً، لكنه هز رأسه بالنفي وقال "لن أسرق بعد اليوم".
وكان محمد قد كذب علي مرات.
: "هل تكذب بعد اليوم؟ ". احمر وجهه خجلاً ، لكنه هز رأسه بالنفي وقال "لن أكذب بعد اليوم".
ضحكت وقلت: "وهل ستلوث ماء النهر؟" ، اندهشت حنان التي هي أم محمد وقالت "ماء النهر؟!!".
غرقت في الضحك، وبدا محمد مثل أمه غير فاهم، لكني نظرت في عينيه طويلا ثم سألته
: "لماذا شاركت في المظاهرات يا محمد؟".
ابتسم محمد ابتسامة الحائر.
قلت وأنا أتهيأ للتمدد علي الكنبة أمام التليفزيون: "قل.. لكي أكون إنسانا أجمل".


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.