حين قامت ثورة 1952 كان المطلب المشروع (نظرياً على الأقل) هو التخلص من ذيول العهد البائد ورموزه ومؤسساته واستبدالها بكوادر تمثل من تعبر الثورة عن مطالبهم. وسجل التاريخ أن ما حدث عملياً هو أن تخلصت الثورة ليس فقط من رموز العهد البائد وسياسييه لكن أيضاً من النخبة السياسية والفكرية والاجتماعية والرأسمالية التي كانت قد تشكلت في أحضان النظام الملكي، واضطرت من لم تتخلص منهم إلى الاكتفاء بهزيل عطاءهم وركيك إبداعهم (يكفي أن تقارن بين أم كلثوم قبل الثورة وبعدها). وتقديري أن الثورة فشلت في إحلالهم بنخب "شريفة" بقدر ما أتت بأهل الثقة دون اعتبار لكفاءة أو مؤهلات تتناسب وحجم السلطات والمسئوليات التي أوكلت إليهم. وحدث أن شعارات التطهير أتت على الصالح والطالح بل وانتصرت في نهاية الأمر لفريق تفوق في فساده وخسة أساليبه على من أطاحت بهم الثورة من قيادات العهد البائد. وما صلاح نصر وعبد الحكيم عامر وصفوت الشريف وأشباههم ممن أفرزتهم الثورة إلا قمة جبل الفساد والقمع الذي أدى كنتيجة طبيعية إلى أكبر هزيمة في تاريخ مصر الحديث في 1967. وبأثر رجعي أظهر التاريخ أن جامعة عبد الناصر لم تخرج قمماً في قامة من أخرجتهم كتاتيب مولانا مثل طه حسين وغيره. وظهر أن معظم إن لم يكن كل المفكرين وأساتذة الجامعات والأدباء والعلماء والفنانين القمم الذين أخرجتهم مصر كانوا في حقيقة الأمر نتاج مؤسسات العهد البائد التعليمية والاجتماعية والثقافية (نجيب محفوظ، وتوفيق الحكيم، والعقاد، والسنهوري، وأم كلثوم، وهيكل، وغيرهم). وفي المقابل من نجح وبرز من عقول مصر بعد الثورة لم تكن مصر لتسمع به لولا أنه هاجر في الوقت وللبلد المناسب (الباز، وزويل، والبرادعي، ومجدي يعقوب ... الخ.). ورثت ثورة 1952 مجتمعاً ذا دعائم سياسية وعلمية واقتصادية يشوبها فساد، فقضت عليها تحت شعار التطهير، لتستبدلها ببنية هزيلة فقيرة مهلهلة على كل المستويات يزيد عليها دولة قمعية رجعية منغلقة استنزفتها الصراعات والمعارك السياسية والعسكرية الخاسرة، وتفشى فيها فساد يفوق ما عرفه العهد البائد أضعافاً مضاعفة. كان نظام الملك يعرف رشاوى و"محسوبيات"، فأتت الثورة بدولة تقوم أساساً على الرشاوى و"المحسوبيات". كان مجتمع ما قبل الثورة ذا صبغة إقطاعية ورأسمالية اوليجاركية، فأتت الثورة بإقطاعيات أقل حجماً تفوق في فسادها واستغلالها وقهرها للعامل والفلاح إقطاعيات وأوليجاركيات ما قبل الثورة ثم ما لبست أن استفحلت حتى فاقت في فحش ثراءها إقطاعيات ما قبل الثورة. إن العبرة التي لا يخطئها من يتأمل بحياد ورغبة صادقة في مصارحة الذات مثاليات ثورة 1952 وشعاراتها الرنانة، هو أن الطريق إلى جهنم مفروش بالنوايا الحسنة. وأن تصفية الحسابات عن قصد أو عن غير قصد بشكل أعمى وأهوج مع النخب التي تنشأ في ظل منظومة فاسدة هو تفريغ للقوى الحقيقية القادرة على أن تقود نهضة الأمة وتقدمها لو أتيحت لها الفرصة ولم يتم التعامل معها بتعسف. إن حكم مبارك على قدر ما استشرى فيه من فساد طولاً وعرضاً أفرز أجيالاً أتيح لها من التعليم والاحتكاك بالعالم ما يعود الفضل فيه إلى حد كبير إلى سياسات هذا النظام نفسه بانفتاحه على العالم وتشجيعه لوسائل اتصالاته (انترنت وإعلام سمع مرئي وغيرها)، وإيفاده لعدد كبير من المبعوثين في مختلف المجالات لجامعات العالم على نفقة الدولة أحياناً، وبتمويل من جهات أكاديمية وعلمية غربية أحياناً أخرى، نتيجة سياسة التصالح والانفتاح الثقافي والسياسي والعلمي التي انتهجها نظامه مع الغرب. والحاصل أن مصر 2011 التي ثارت، لم تكن لتثر لولا طلائع أجيال أفرزتها بنية هذا النظام الاجتماعية والثقافية والعلمية والسياسية معاً (على ما فيها من فساد وقصور وأخطاء فادحة)، وأن شباب اليوم بنى على ما أرسى شباب الأمس دعائمه فشابت شعور رؤسهم في تدارك أخطاء أجيال سبقتهم قامت بتصفية النخب فأورثتهم بلداً مفرغ الطاقات منعدم الكفاءات مقهور فاسد ومفلس. إنني لا أخفي بالغ قلقي من نبرة التخوين والتقليب في الدفاتر القديمة للنخبة التي تشكلت في عهد مبارك والتي هي أقدر ما تكون في رأيي على قيادة هذا البلد في الفترة القادمة. حدث ومازال ذلك يحدث مع عمرو موسى، والبرادعي، وأحمد شفيق، وساويرس، وبعض أعضاء لجنة السياسات في الحزب الوطني (التي كانت إحدى قاطرات الإصلاح السياسي على الرغم من كل ما تحمله لها الثورة ولأمينها جمال مبارك من عداء، وتحميلها بشكل غير موضوعي ومبالغ فيه في رأيي بالمسئولية كاملة عن فساد يسبقها بعقود وهي في رأيي قد حاربته أكثر مما تغاضت عنه أو هادنته). إن رموز هذه النخبة وقوامها، هم أساساً صنيعة حقبة لم يكن لهم إلا أن يقبلوا ويعملوا في إطارها ويسهموا من خلالها قدر استطاعتهم في إصلاحها ببطء من الداخل. فعمرو موسى حين حاد بلهجته (ولو على استحياء) عما اعتادته الدبلوماسية المصرية تجاه اسرائيل كان يمهد للثورة، والبرادعي حين شرف بعلمه وكفاءته الإدارية والتكنوقراطية مصر برئاسة الوكالة الذرية للطاقة (بتأييد ودعم من نظام مبارك نفسه) ووقف من موقعه مواقف حاسمة أحياناً وأقل حسماً أحياناً أخرى تجاه مطالب التغيير في مصر كان يمهد للثورة، وأحمد شفيق وساويرس حين علت لهجة العقل والكياسة على ألسنتهم في التعبير والتعاطي مع المعطيات السياسية لأزمة الأيام الأولى للثورة، كانوا يسهمون فيها، وكل مسئول حاول ولو بقدر قليل أن ينزه نفسه ومنصبه عن بعض إن لم يكن كل ما عرفته البيروقراطية المصرية من عجرفة وسخافة وانعدام الكفاءة، كان يمهد للثورة وأسهم فيها بقدر. والعبرة أن ما حدث بالأمس البعيد من الممكن أن يتكرر اليوم لو أن شباب الثورة لم يفهم الدرس المرير الذي تجرعته مصر علقماً لعقود طويلة قبل أن تبدأ ببطء في التعافي من مرضه العضال في الخمسة عشر سنة الأخيرة. وأخشى ما أخشاه هو أن الطرح الاجتماعي والسياسي والاقتصادي لكثير من قوى الثورة ينبئ بمناخ اقتصادي واجتماعي فيه مراجعات خطيرة لمبادئ الانفتاح الاقتصادي والثقافي والسياسي الذي كان له أكبر الفضل في إفراز هذه النخب، وهو ما يهدد بهجرة بعضها وتهميش بعضها الآخر، وفطام أشبالها قبل الأوان بقطع السبيل بينها وبين أدوات احتكاكها بالعالم الخارجي وبوسائل الاتصال به واستلهام حضارته. إن الخطأ بل والجرم الذي أخشى أن ترتكبه الثورة أو تؤدي إليه من دون قصد هو تفريغ هذا الوطن من نخبة ضنينة وليدة هي أقلية لا أمل لها في لعب الدور الذي يجب أن تلعبه في هذا المفترق التاريخي لو أنها تركت لتخوض بهزيل عددها وعتادها معركة الديمقراطية التي تنادي بها الثورة. إن الشعوب تستغرق عقوداً طويلة كي ما تفرز نخباً على قدر من التعليم والإلمام بمعطيات العصر والقدرة على التعاطي مع مفرداته، يسمح لها بجر قطار النهضة وقيادة مسيرتها. والفساد بقدر ما يكدس الثروات بطرق غير مشروعة في جيوب قلة منحرفة، بقدر ما يخلق بشكل مباشر وغير مباشر (عن طريق اقتصادياته وبنية استثماراته ولو كان الفساد مصدر تمويلها) طبقات اجتماعية تتوفر لها من أريحية العيش ووفرة الدخل ما يجعلها تتلقى تعليماً متميزاً وتحتك بالعالم الخارجي وتستقي من علومه وقيمه وفنونه وآدابه. وأبناء الفاسدين ليسوا بالضرورة فاسدين بالوراثة. والأنظمة الفاسدة على فسادها تراكم لدى القائمين عليها مخزون خبرات وحنكة سياسية ومهارة تكنوقراطية وعلمية لا يمكن لمجتمع أن يلقي بها في سلة القمامة دون أن يدفع الثمن باهظاً من تاريخه ومن أدوات نموه وتقدمه. والبسطاء من العامة والجهلاء لا يقودون نهضة علمية أو اجتماعية أو ثقافية أو فنية أو سياسية ولو كانوا هم عنوان الشرف. والنزاهة ليست بديلاً عن العلم والكفاءة والخبرة، وإن كانت مطلباً أساسياً لا يجب التسامح فيه. فهل لنا أن نستوعب دروس الثورة الأولى، حتى لا تنتهي الثورة الثانية بكارثة لا تقل عن الكارثة الأولى فداحة وجرماً؟ [email protected]