حلم المدينة اليوطوبية حلم ابدي وردي يراود جميع البشر.. كل منا يعانق حلم مدينة جميلة المعالم معبدة الطرق لتسير السفينة.. سفيتنا الفلسفية التى نتمنى أن ترسو بنا إلى بر الأمان.. إلى مدينة خالية من كل أنواع الشرور وعوامل الغرور التى تتغذى وتنمو على حب الجاه والسلطة والمال.. خالية من كل الأوجاع والأسقام وأفواه الجياع.. خالية من الشرور الاجتماعية والنفسية.. خالية من أحقاد ومكائد وسهام ناقدة لاذعة قد تقذف وترمى دون فائدة أو عائد. مدينتي التى احلم بها.. براقة المنظر.. نقية الجوهر.. مثمرة عطاءه وفيرة الإنتاج كنهر المرمر.. تنعم بسلام دائم.. ووئام بين ساكنيها لا يفسد صفوه فتنة المنتفعين والقاصدين لتحقيق اجنداتهم الخاصة.. التى أحيانا ما تنتهك حقوق العامة وتتعدى على الأعراف والقوانين الشرعية.. جالبة بذلك الهم والغم.. وكثير من الشرور البشرية التى تنشر الظلم والفساد في كثير من الطبقات العمرانية. ومع قدامة حلم يوطبيا المدينة الفاضلة قدم الأزل.. شهدنا عبر التاريخ محاولات نضال وكفاح تنادي بإقامة هذا الحلم.. ولكن يبدوا أن طبيعة النفس البشرية تحول دون تحقيق حلم المدينة الفاضلة بالشكل الصحيح الكامل.. فالصراع بين الخير والشر صراع قديم.. والمواجهات المتصادمة بينهما متواجد منذ بداية الخليقة.. قوى حاملة لقيم الفضيلة لصالح العامة تقاوم وتواجه أشكال الفساد والإنحراف.. وقوى عاملة على صالحها الخاص لتنمو وتتضخم ذاتها الإنانية المتطبعة بالعناد وحب الأساليب الملتوية المغذية لقوى الفساد. وأحداث 25 يناير خير دليل على هذا الصراع بين القوى.. انتشرت مقولة مصر قبل 25 يناير ستكون غير مصر بعد 25 يناير.. وبدا لي أن حلم المدينة الفاضلة سيتحقق.. لا ظلم.. لا تعذيب.. لا قمع.. لا فقر.. لا جهل.. لا غش أو تزوير.. لا كدب ولا تحوير.. لا رشوة ولا قسوة.. لا إهمال في العمل أو تزويغ بحجة الذهاب للمريخ.. لا تسهيلات أو محسوبية.. لا واسطة أو قصاصة توصية.. لا مقابل مادي نظير الحصول على الخدمات وإنجاز المصالح.. لا لدفع العمولات والسمسرة.. لا للتهديد والتنديد والتلويح بالوعيد.. لا للتعالي والتباهي وتجريح مشاعر الآخرين وإطلاق الإشاعات وتحريف الحكايات.. لا لحكاوي القهاوي وقت العمل.. لا لتخريب الممتلكات العامة وعدم الحفاظ على حالاتها ومظهرها (نظافة الشوارع، الحدائق العامة، المواصلات العامة ومنها القطارات).. لا للتعدي على أملاك الدولة.. لا لإختراق القانون ومخالفة نصوصه.. لا لمقولة "خليها على البركة" دون الالتزام بحدود النظام.. لا للتعظيم والتكبير والتهليل لأصحاب الأمتيازات والمناصب.. والمدح في كل نجم واصب.. لا للتهليب والفهلوية والكسب السريع المحقق لقيم الريع وليس المدعم لقيم الاستثمار ليعم النفع على الجميع.. كل هذه السلوكيات والتوجهات وغيرها كثير كانت سارية ومُفعلة لفترة طويلة قبل 25 يناير.. كثيراً منا فعلها ونماها لتكبر وتتوغل داخل النظام السابق لما قبل الثورة.. كثيراً منا كان "ومازال" سبباً في نشرها وتفشيها.. وخاصة أنه مازال هناك قوى تنهش وتهتك وتفتك.. أو ما يسمى بالثورة المضادة التي تعمل على إفساد الحلم.. حلم يوطوبيا المدينة الفاضلة.. ما زالت هناك قوى تنشر الفتن وتثير الخلافات وتشعل لهيب الغضب وتساعد بذلك على خلق كثير من المحن.. انتشر سيل الاتهامات لكل مسئول وقائد بالاشتراك في الفساد واستغلال صلاحيات المنصب وإهدار المال العام.. وغير ذلك من اتهامات دون تفريق بين مخلص وشريف وبين مذنب وبالأساليب الملتوية عريف.. وأخذ يحاول كل شريف (وربما عددا من غير الشرفاء) إبعاد تهمة الفساد عنه وإثبات أنه شريف اليد يسعى لتحقيق الصالح العام.. والحقيقة أن مساءلة الدفاع عن نزاهة النفس هذه تعتبر شاقة ومرهقة وأليمة على النفس.. تهدر الكثير من الجهد والوقت.. جهد المدافع عن ذاته للعمل على محو الصورة التي لصقت في أذهان البعض عنه.. ووقت العمل المخصص لإنجاز مصالح العامة من الجماهير وسير عملية الإنتاج والتنمية.. انقسمنا إلى: مهاجم ومدافع.. مؤيد ومعارض.. شريف وفاسد.. مصنفين ضمن قوائم العار وقوائم الشرفاء.. تابع للنظام القديم الفساد وتابع لنظام ما بعد ثورة 25 يناير.. مصنفين حسب الديانة مسلم، مسحي، وهابي.. مصنفين مؤيد لهذا ومحارب لذاك.. إلى غير ذلك من الانقسامات التي تثير كثير من المشاكل والشرور.. ولا تدعم روح المواطنة والوحدة والموائمة مع العناصر الداخلية والخارجية.. ويبدو أننا أصبحنا بحاجة إلى عصا سحرية لتحقيق هذه الموائمة مع أنفسنا والآخرين أولا.. ثم مع عناصرنا الداخلية والخارجية.. عصا سحرية تحقق لنا المصالحة والمواطنة والديمقراطية بصورة صحيحة متحضرة تسمح بوجود الخلافات دون عداء.. عصا سحرية تحقق لنا جميع مطالبنا وآمالنا في التو واللحظة ونقل حالتنا المعيشية إلى مستوى أفضل دون عناء العمل وطول أمل ودون جهد لتطوير عملية الإنتاج والاستثمار والبحث العلمي والقوى البشرية وهي جميعها تعتبر عوامل هامة لتطوير وتنمية المجتمع وتحسين معيشة البشر.. وأخيراً عصا سحرية لتطوير قادة عظام وقائد همام يوحد صفوفنا ويقيم العدل والديمقراطية ويحاول مداواة كل الأوجاع والأسقام وأمراض المجتمع العظام. ويتراءى لي أن هذه العصا السحرية تتمثل في الإرادة القوية.. فردية كانت أو جمعية.. إذ أن الإرادة والعقل المتسلح بالمعرفة والعلم المتطور هما مفتاح كل حضارة وإنماء كل مجتمع مهما كانت موارده في بناء العمارة.. عمارة المدنية والحضارة.. عمارة المدينة الفاضلة وتحقيق حلم اليوطوبيا المتواجد منذ قديم أزل القوى المناضلة.. د. نهلة درويش دكتوراة في الآداب – علم الاجتماع 20/3/2011