(كواليس أول استفتاء فى حياتى .. ما بين كوميديا الموقف وسقطاته) عرس الديمقراطية.. هكذا أعلن يوم الاستفتاء الشعبى على التعديلات الدستورية الأسبوع الماضى. فئات شعبية متباينة اصطفت بالمئات فى طوابير منتظمة بطول الشوارع المحيطة بلجان الاستفتاء، فقط من أجل أن تطرق باب الديمقراطية لمرتها الأولى. وبيد أن الاحتفالية قد أقيمت على شرف العرسان الجدد (نعم) و(لا)، إلا انهما فعلياً لم يكنا جوهرها. فالحق يقال، كثير من الحضور لم يبدوا على ثقة تامة فى اختيارهم حتى اللحظة الأخيرة وآخرون آثروا عزوة القرار الجماعى للعائلة أو الأصدقاء بعد أن أضناهم البحث عن السيناريو الأفضل وانهالت عليهم البرامج الإعلامية والصحفية والإعلانية ب"كورس" مكثف من الآراء المتضاربة لذوى الرأى والفكر والمصالح، هذا ناهيك عن طبقة شعبية عريضة أوقعها جهلها السياسى بإرادتها التامة فى فخ المتاجرة بالدين والسعى إلى تسييسه فى الاتجاهين (نعم ولا). وحيث أننا مازلنا نحبو فى طريق الديمقراطية وكلا السيناريوهين لن تنجم عنه كارثة، فواقع موافقتنا على التعديلات الدستورية من عدمه قد لا أحسبه قضية أو لحظة فارقة بقدر ما أحسب تلك الروح المعنوية المرتفعة التى سادت أجواء الاستفتاء وغلفها حرصنا الجاد كمصريين على المشاركة فى صنع مستقبل بلادنا ورغبتنا الواضحة فى الحفاظ على مكتسبات الثورة وحقوق المواطنة. ولأن طبيعة المصريين طالما كانت فريدة وكذلك سلوكياتهم، فلم تخل عملية الاستفتاء من بعض المواقف الوطنية والمفارقات العجيبة والسقطات التى عكست بقوة تركيبتنا الخاصة. وحتى لا أُتهَم بتشويه وجه مصر ما بعد الثورة فأننى أسجل أمامكم أشادتى التامة بالروح التنظيمية والوطنية المتحضرة التى أظهرها الشعب واتسمت بها عملية الاستفتاء بوجه عام وإن لم تخل بدورها من بعض ..... ولتكن كواليس تجربتى الشخصية ذلك اليوم سبيلى لإيضاح وجهة نظرى. فعلى مدى أيام سبقت الاستفتاء، داومتُ على متابعة عشرات البرامج الإعلامية والمقالات الصحفية والمواقع الإلكترونية التى تتحدث عن السيناريو المفترض لنعم ولا. ولأنى أدرك أن صوتى أمانة ومسئولية فى هذا لمرحلة الدقيقة من عمر مصر فقد قررت ثلاثاً: (!) ألا أفرض رأيى على خمسة آخرين دعماً للا، (2) ألا أشارك فى عزوة الصناديق تأييداً لنعم وأخيراً (3) ألا يشكل رأى الأهل والأصدقاء وذوى المصالح والفنانين رؤيتى فى هذا الشأن، فقط من أثق وأتدبر فكرهم التحليلى والسياسى المتعقل للموقف. وتأتى ليلة الاستفتاء لأصلى ركعتى استخارة داعية أن يلهمنى الله القرار الصائب قبل أن أدلى بأول تصويت تاريخى لى فى حياتى. وبما أن المشاركة فى الاستفتاء باتت فرض عين على كل أسرة مصرية بعد الثورة، فقد بادرنا للتصويت الجماعى فى جولة استكشافية بدت مشتتة الوجهة لحين العثور على لجنة ربما يكون قد أغفلها الضغط الجماهيرى. وما أن صادفنا عائلة مسيحية جارة لنا فى طريقها للاستفتاء حتى صممنا بروح الثورة المجيدة والوحدة الوطنية أن نصطحبها معنا فى هذه الجولة المشهودة، ليبدأ تعارفنا لأول مرة عن قرب بالسؤال التقليدى .. "ناويين تقولوا إيه؟". اختلفنا بين نعم ولا حتى على مستوى الأسرة الواحدة، إلا أن تلك الروح الصادقة والآراء المتعقلة التى غلفت النقاش أخذت بالحوار إلى نقطة التقاء أهم. فالكل يرحب بالثورة التى جاءت بعد سنوات عانينا فيها شتى أنواع الفساد والكل يرى فى مراعاة القيم الدينية والأخلاقية وتحرِّيها فى كل شئ سبيلنا الحقيقى نحو الإصلاح على اختلاف عقائدنا الدينية. وعليه فالأولى بنا أن نصلح من أنفسنا وأبنائنا قبل أن نتحول إلى محاسبة الغير. بهذه الحكمة البليغة انتهى حوارنا الوطنى الحماسى عما تحتاج إليه مصر فى هذه الفترة المشرقة من تاريخها وبذات الحماسة طبقنا هذه الحكمة. فما أن وقعت أعيينا على ذلك الطابور البشرى المصطف بالمئات بطول شارعين عريضين طالتهما الشمس من كل اتجاه حتى أفقدتنا الصدمة أولى مبادئنا، لنشرُع متخَفين فى استخدام سلاح قديم عهدنا اللجوء إليه فى مثل هذه الأوضاع "الكوسة". وبيد أن الامتيازات الممنوحة للرواد والحوامل وذوات الأطفال كانت قد أعطت لبعضنا حق المرور الفورى للتصويت إلا أن ذلك لم يف بالغرض. وعليه، ففى أول اختبار حقيقى "للا" لم يدم تمسكنا بحملتنا الشرسة على الفساد والمحسوبية طويلاً لتجهضه مكالمة مباشرة أجرتها إحدانا مع قريب لها شارك فى تنظيم عملية الاستفتاء، مكالمة جعلتنا نخترق الصف متجاوزين الجميع وسط شجب البعض ونظرة محبَطة من رفيقة الدرب جارتنا التى اضطررنا أن نحرمها ميزة الاستفادة من علاقاتنا الشخصية. سرقتُ دورى فى الاستفتاء .. اعترف. ولأنى حديثة العهد بالعملية الانتخابية فما كان منى إلا أن أدلى بصوتى ثم أبادر بوضع إصبعى فى الحبر الفوسفورى متسائلة "أين أضع بصمتى؟". قمة الجهل السياسى الذى لم ألحظه إلا حين تبسم مراقب اللجنة مذكراً إياى بالغرض الأساسى من استخدام الحبر الفوسفورى فى الانتخابات والذى لا يتجاوز ضمان عدم ازدواجية التصويت، لأتبسم بدورى وشعورى بالخجل قد تملكنى تماماً "آسفة، بس دى أول مرة أصوت فيها". وبينما أنا فى طريقى إلى باب الخروج عاتبة على نفسى جهلى السياسى الذى ربما فاق الأميين أنفسهم، إذ بى اصطدم بتلك الجارة ذاتها لأسالها فى ذهول كيف لحقت بنا والطابور يضج بالجماهير. فبادرتى بوجه تعلوه زهوة النصر "فضلت ازنق فى البنات اللى واقفين قدام حبة بحبة لحد ما افتكرونى معاهم ودخلت" .. وهنا قلت فى نفسى نِعمَ القيم تلك التى تحاورنا باسمها جميعا عندما تحدثنا عن مستقبل أفضل لمصر .. كنا أول من شجب وندد بالفساد وكذلك أول من صوَّت بالكوسة والواسطة والدراع. هكذا شاركتُ فى التصويت بالمحسوبية .. وبصمتُ بحبر فوسفورى .. وتحايَلت جارتى على غيرها بدهاء لتأخذ مكانه .. وخرج غيرى بقلم استعاروه من لجنة الاستفتاء ثم احتفظوا به عنوة باعتباره مال عام "سايب". هكذا خرجنا جميعاً لنغير وجه مصر وبهذه الكيفية شارك بعضنا فى صنع مستقبل افضل لها !! (المهم) صوَّتنا، والآن نحن فى طريقنا للاحتفاء بهذا العرس الديمقراطى المشهود. إجازة رسمية وشوارع رئيسية باركتنا بسيولة مرروية غير معهودة واختفاء أمنى لم يزعجنا كثيراً. فالبلطجية مثلنا منشغلون بالتصويت، والشرطة عاكفة على تأمين اللجان، ومواصلة جولتنا المرورية لا تستلزم جهداً يذكر لاسيما وقد بدا الجميع فى حالة تسامح وارتياح تام بمجد وضْع يده فى الحبر الفسفورى. وعليه فقد اكتفينا فى طريقنا من الهرم إلى وسط المدينة بذلك الشرطى الأعزل الذى نجح بعبقرية فى تنظيم المرور عند ملتقى شارعين رئيسيين مستخدماً جسده فى إيقاف سيارة قادمة من الاتجاه المعاكس ثم مبادراً بإعطائنا إشارة المرور بجهد الصفير الذاتى المستخدم عادة فى المعاكسات. كان الوضع طريفاً وسلساً لاسيما وقد تحلى كل من المارة وسائقى المركبات بقدر من الهدوء والصبر والرقى المتبادل فى التعامل أعلنوا به حالة التعايش السلمى مكتفين بالإشارة يميناً ويساراً بأكف بصم عليها الحبر الفوسفورى وكأنها علامة النصر وتحية المواطنة والوسيلة الشعبية الجديدة لإدارة المرور فى شوارع المدينة. الكل يبحث عن صورة تاريخية تجمعه بإصبعه الملون بينما يفتش البعض بعينيه فى يد الآخرين محاولاً إحصاء حجم المشاركة الجماهيرية فى الاستفتاء وربما استطلاع نتيجته المرتقبة. كان يوماً حافلاً بحجم الحدث الذى يشهده وبغض النظر عن حجم السقطات التى وقعنا فيها. "سقطات بالفعل لكنها غير مقصودة ولا تشوه هذا الشعب العظيم": هكذا أعلنت فى قرارة نفسى. أو بالأحرى هكذا كنت قد أعلنت حتى صادفنى ذلك التجمع العشوائى الهائل لتكاتك المنطقة الشعبية التى تجاورنا وقد احتل عنوة إحدى نواصى الشارع الرئيسى معرقلاً مرور صف كامل من السيارات. بروح التذمر الإيجابى التى عاودت المصريين بعد الثورة بحثنا عن الغيث الشرَطى فى رجل مرور وقف شارداً فى مواجهتهم تماماً، بادرناه بشكوانا فبادرنا برده التلقائى "أصل أنا مليش رتبة .. كلموهم انتوا". وهنا بالتحديد أحنيت رأسى خجلاً ولسان حالى يقول "أعانك الله علينا يا مصر" . ربما نحن بحاجة إلى يوم مماثل نستفتى فيه على التعديلات السلوكية للشعب المصرى وليس على الدستور المصرى .. علنا ننتهى فيه إلى "لا" كاسحة نسقِط بها أخلاقيات مؤسفة وسلوكيات خاطئة وقيم سلبية ومغلوطة اكتسبناها على مدى أنظمة فاسدة، لنخرج بأخرى أكثر تحضراً ورقياً ومواءمة لمصرنا الجديدة كما نبتغيها. عفواً، فحرصاً على ألا ينتهى بى الأمر إلى وصمى بتهمة الفساد أعود لأؤكد أن أحداث هذه الجولة واقعية، شهدتها بتفاصيلها وإن لم أكن حقيقة ضلعاً مشاركاً فيها. لكنى وجدت فى جولة واحدة أرصد من خلالها مواقف إيجابية جنباً إلى بعض السقطات التى وقع فيها البعض فى عملية الاستفتاء استكمالا لسلسة قراءاتى الاجتهادية فى صحتنا النفسية بعد الثورة، حتى وإن أوقعت نفسى كبش فداء لأبطال القصة الحقيقيين أو لألسنة تتهمنى بإحباط المصريين ومحاولة تشويه وجه مصر المشرق بعد 25 يناير.