منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية تخفض من توقعاتها بالنسبة لنمو الاقتصاد الألماني    مجلس الحرب الإسرائيلي يجتمع اليوم لمناقشة موضوعي الرهائن واجتياح رفح    طريق الزمالك.. البداية أمام بروكسي.. والإسماعيلي في مسار الوصول لنهائي الكأس    رانجنيك يوجه صدمة كبرى ل بايرن ميونيخ    حبس طالب جامعي تعدى على زميلته داخل كلية الطب في الزقازيق    مصرع وإصابة 3 أشخاص في حادث بالطريق الزراعي بالقليوبية    محافظ المنيا يوجه برفع درجة الاستعداد لاستقبال عيدي القيامة وشم النسيم    الثانوية العامة 2024.. مواصفات امتحان اللغة العربية    بحضور سوسن بدر.. انطلاق البروفة الأخيرة لمهرجان بردية لسينما الومضة بالمركز الثقافي الروسي    «الشيوخ» ينعي رئيس لجنة الطاقة والقوى العاملة بالمجلس    ارتفاع حصيلة قتلى انهيار جزء من طريق سريع في الصين إلى 48 شخصا    مصير مقعد رئيس لجنة القوى العاملة بالشيوخ بعد وفاته    السيسي: حملات تفتيش على المنشآت لمتابعة الحماية القانونية للعمال    الأهلي والالومنيوم والزمالك مع بروكسي.. تفاصيل قرعة كأس مصر    نجم الأهلي السابق: إمام عاشور أفضل لاعب في مصر    الهجرة تعلن ضوابط الاستفادة من مهلة الشهر بمبادرة سيارات المصريين بالخارج    «القومي للأمومة» يطلق برلمان الطفل المصري لتعليم النشئ تولي القيادة والمسؤولية    وزراة الدفاع الروسية تعلن سيطرة قوات الجيش على بيرديتشي شرقي أوكرانيا    واشنطن تطالب روسيا والصين بعدم منح السيطرة للذكاء الاصطناعي على الأسلحة النووية    الأرصاد: الأجواء مستقرة ودرجة الحرارة على القاهرة الآن 24    حداد رشيد حول منزله إلى ورشة تصنيع أسلحة نارية    أب يذبح ابنته في أسيوط بعد تعاطيه المخدرات    ميقاتي: طالبنا المجتمع الدولي بالضغط على إسرائيل لوقف هجماتها على لبنان    بعد طرح فيلم السرب.. ما هو ترتيب الأفلام المتنافسة على شباك التذاكر؟    مسلسل البيت بيتي 2 الحلقة 4.. جد بينو وكراكيري يطاردهما في الفندق المسكون    الإمارات: مهرجان الشارقة القرائي للطفل يطلق مدينة للروبوتات    تزايد حالات السكتة الدماغية لدى الشباب.. هذه الأسباب    فيديو وصور.. مريضة قلب تستغيث بمحافظ الجيزة.. و"راشد" يصدر قرارا عاجلا    السكرتير العام المساعد لبني سويف يتابع بدء تفعيل مبادرة تخفيض أسعار اللحوم    «اكتشف غير المكتشف».. إطلاق حملة توعية بضعف عضلة القلب في 13 محافظة    مصدر رفيع المستوى: تقدم إيجابي في مفاوضات الهدنة وسط اتصالات مصرية مكثفة    رئيس اتحاد القبائل العربية يكشف أول سكان مدينة السيسي في سيناء    «التنمية الحضرية»: تطوير رأس البر يتوافق مع التصميم العمراني للمدينة    دعم توطين التكنولوجيا العصرية وتمويل المبتكرين.. 7 مهام ل "صندوق مصر الرقمية"    كلية الإعلام تكرم الفائزين في استطلاع رأي الجمهور حول دراما رمضان 2024    هل تلوين البيض في شم النسيم حرام.. «الإفتاء» تُجيب    شيخ الأزهر ينعى الشيخ طحنون بن محمد آل نهيان    كولر يعالج أخطاء الأهلي قبل مواجهة الجونة في الدوري    شوبير يكشف مفاجأة عاجلة حول مستجدات الخلاف بين كلوب ومحمد صلاح    هيئة الجودة: إصدار 40 مواصفة قياسية في إعادة استخدام وإدارة المياه    بنزيما يتلقى العلاج إلى ريال مدريد    البنك المركزي: تسوية 3.353 مليون عملية عبر مقاصة الشيكات ب1.127 تريليون جنيه خلال 4 أشهر    لمواليد 2 مايو.. ماذا تقول لك نصيحة خبيرة الأبراج في 2024؟    على طريقة نصر وبهاء .. هل تنجح إسعاد يونس في لم شمل العوضي وياسمين عبدالعزيز؟    التنظيم والإدارة يتيح الاستعلام عن نتيجة الامتحان الإلكتروني في مسابقة معلم مساعد فصل للمتقدمين من 12 محافظة    منها إجازة عيد العمال وشم النسيم.. 11 يوما عطلة رسمية في شهر مايو 2024    رئيس الوزراء: الحكومة المصرية مهتمة بتوسيع نطاق استثمارات كوريا الجنوبية    سؤال برلماني للحكومة بشأن الآثار الجانبية ل "لقاح كورونا"    أبرزها تناول الفاكهة والخضراوات، نصائح مهمة للحفاظ على الصحة العامة للجسم (فيديو)    تشغيل 27 بئرا برفح والشيخ زويد.. تقرير حول مشاركة القوات المسلحة بتنمية سيناء    هئية الاستثمار والخارجية البريطاني توقعان مذكرة تفاهم لتعزيز العلاقات الاستثمارية والتجارية    دعاء النبي بعد التشهد وقبل التسليم من الصلاة .. واظب عليه    التضامن: انخفاض مشاهد التدخين في دراما رمضان إلى 2.4 %    هل يستجيب الله دعاء العاصي؟ أمين الإفتاء يجيب    عميد أصول الدين: المؤمن لا يكون عاطلا عن العمل    حكم دفع الزكاة لشراء أدوية للمرضى الفقراء    مظهر شاهين: تقبيل حسام موافي يد "أبوالعنين" لا يتعارض مع الشرع    بروسيا دورتموند يقتنص فوزا صعبا أمام باريس سان جيرمان في ذهاب نصف نهائي دوري أبطال أوروبا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



صاحب البذلة الواقية من البلل (الفصل الثاني)
نشر في المصري اليوم يوم 22 - 06 - 2015

هذه ليست رواية أدبية من أعمال الخيال، بل هي قصة حقيقية عن جثتين عُثر عليهما في بلدين مختلفين في شمال أوروبا، كي تشداك معهما في تحقيق مثير حول العالم. فيها من عناصر الدراما، ومن الواقعية في آنٍ معاً، ما يجعل منها قراءة سلسلة مشوقة نافعة. وفيها من الدقة في الأداء، ومن العناية بالتفاصيل، ومن حلاوة العرض ما يجعل منها تدريباً جيداً لزملائنا من الصحفيين الاستقصائيين، وللمهتمين كافةً بسن الرمح في العمل الصحفي الجاد. إن كان لديك شيء واحد تقرأه اليوم فاقرأ هذا التحقيق، بشرط أن تقرأه حتى آخر سطر.. اقرأه.. واستفد.. واستمتع.
صاحب البذلة الواقية من البلل
تحقيق: أندرس فيلبيرغ
نشر أول مرة في جريدة «دايبلاديت» النرويجية بتاريخ 15 يونيو حزيران 2015
ترجمه بتصرف: يسري فوده
الفصل الثاني: الغابة
تعصف ريحٌ صرصرٌ بالرمال فتمسح الأرض. تخفت القدرة على الرؤية حتى تتلاشى في بعض الأحيان في تلابيب العاصفة. على بعد عدة مئات من الأمتار، في منطقة رملية يكسوها لون رمادي/بني بين تلّتين، ترتسم خيالات حفنة من اللاجئين في غمار سحابة من التراب، يدفعون في مواجهة الريح سلة مشتروات متحركة مليئة بقنينات المياه.
«ممنوع التصوير»، يصيح أحدهم عندما يلمحنا، ويشيح بيديه في وجوههنا أن ابتعدوا عن هنا. تحيط بنا من كل اتجاه كشافات ضوئية بلاستيكية زرقاء وسوداء وخضراء، وخيام بسيطة مثبتة في الأرض بقوائم وأسلاك حديدية وحقائب بلاستيكية. مئات من هذه الخيام تفترش هذه البقعة التي كانت قبل ذلك مكبًا للنفايات. نحو ألفين ممن يوصفون بالمهاجرين غير الشرعيين من كل أنحاء العالم يعيشون هنا، ومن المتوقع أن يتضاعف هذا العدد بحلول الصيف. تقريبًا لا يوجد لديهم مياه ولا كهرباء ولا قواعد ولا أمن ولا مصادر للتدفئة.. لا شيء.
يبزغ رجل عشريني مفتول العضلات، طوله نحو مترين، منحدرًا بحذاء الطريق في اتجاه مبنى اعتاد المهاجرون منذ يناير/كانون الثاني أن يحصلوا منه على وجبتهم الوحيدة في اليوم. يوجد في هذا المبنى أيضًا صنبور المياه الوحيد في هذه المنطقة.
لم تتعد الساعة الحادية عشرة صباحًا وهذا الرجل العشريني مخمور بالفعل، قابض على قنينة نبيذ وردي من متجر ليدل. ثم يصرخ الآن بأعلى صوته: «أريد أن أعود إلى وطني.. أريد أن أعود إلى أفريقيا».
أهلًا بكم إلى مخيم اللاجئين البائس، الراتع في الأمراض، غير الرسمي، في ميناء كاليه شمال غربي فرنسا. أهلًا بكم إلى الدليل القاطع على الفشل التام لمحاولات أوروبا الغربية التعامل مع اللاجئين بأدنى درجات الكرامة الإنسانية. أهلًا بكم إلى المخيم الذي لا يريده أحد لكنه هنا على أية حال وهو يتفاقم كل يوم. أهلًا بكم إلى المخيم الذي لا يحمل اسمًا رسميًا وإن كان معروفًا على نطاق واسع باسم يليق به. أهلًا بكم إلى «الغابة».
تطل كاليه، التي يسكنها نحو سبعين ألفاً، على أضيق جزء في القنال الإنغليزي؛ فالمسافة من هنا إلى إنغلترا لا تتجاوز 34 كيلومترًا حتى أنك إن تطلعت منها في يوم صحو تستطيع أن ترى حواف الصخور الجيرية البيضاء التي تميز دوفر على الجانب البريطاني. سوى هذا، فإن كاليه بلدة خالية من السحر.. مجرد مدخل إلى فرنسا. يصف أحد كتب الإرشاد السياحي هذه البلدة بأنها مكان يعبره معظم الناس ولا يتوقفون.
لا يبعد النفق الرابط بين بريطانيا وفرنسا تحت القنال الإنغليزي بأكثر من كيلومترات معدودة، ومن ثم تلحظ حركة دؤوبة للقطارات والسيارات والشاحنات تحت سطح الماء، بينما فوق سطحه تنطلق العبّارات من هذه النقطة على هذا الجانب إلى دوفر على الجانب الآخر.
الأمر إذًا يهم بريطانيا، ربما بأكثر مما يهم فرنسا. ورغم أن باريس تفرض حصارًا شبه عسكري على المخيم منذ نشأته، فإن تعزيزات أمنية ظهرت حديثًا في صورة سور شائك يبلغ ارتفاعه خمسة أمتار تمتد أفقيًا لمسافة عشرين كيلومترًا. كانت آخر مرة استُخدم فيها هذا السور الشائك بعينه أثناء اجتماع رفيع المستوى لحلف شمال الأطلسي (ناتو) في مقاطعة ويلز البريطانية. تبرعت لندن به، إضافةً إلى 12 مليون جنيه استرليني لدعم إجراءات الأمن حول العبّارات وحول النفق.
في المخيم، لا يوجد لدى المهاجرين سوى هدف واحد: أن يصلوا إلى إنغلترا. السؤال: كيف؟ يصل هذا الهدف من القوة إلى حد أن خمسة عشر مهاجرًا لقوا حتفهم العام الماضي، بينهم فتاة لم يتجاوز عمرها السادسة عشرة. معظمهم صدمتهم شاحنات أو حافلات أو سيارات على الطريق. أحدهم مات عندما قفز من جسر فدهسته شاحنة تصادف مرورها في تلك اللحظة. مهاجر آخر وُجدت جثته في نهر قريب، بينما سقط زميل له من مكان اختبائه إلى أسفل عجلات حافلة سياحية ضخمة. وهناك آخرون لا أثر لأسمائهم في القوائم الرسمية أو على صفحات المدونين أو ضمن شريط الأخبار. هؤلاء هم الذين لا يسمع بهم أحد، ولا يتذكرهم أحد، ولا يسأل عنهم أحد.
من هنا، انبثق احتمال المهاجرين في ذهن المحقق الهولندي، يون فيلزينباخ، وزملائه، عندما استطاعوا أن يربطوا البذلتين الواقيتين من البلل بذلك المتجر في كاليه. إذ إن شخصًا دائم الإقامة في أوروبا أو من كاليه أو حتى سائحًا عاديًا كان لا بد أن أحدًا ما، من أهله أو من أصدقائه، سيبلغ عن فقده، وكان لا بد لهذا أن ينتهي به المطاف لدى الشرطة.
شيء آخر حيّر تفكير المحقق الهولندي، وهو أن توليفة الأدوات المشتراة من المتجر الرياضي لم يكن لها معنى لدى المحترفين. مزيج من أدوات السباحة التنافسية والجمباز المائي ومعدات الغطس. لا أحد يتمتع بحد أدنى من الإلمام بالرياضات المائية كان ليشتري هذا المزيج المتنافر.
هل يمكن إذًا افتراض أن الأمر يتعلق بلاجئيْن كانا يخططان للسباحة في اتجاه إنغلترا؟
أمام مجمع صناعي في إحدى ضواحي كاليه يقع متجر ديكاثلون للأدوات الرياضية. هو أحد فروع سلسلة من المتاجر التي تشبه متجر XXL في النرويج حيث تستطيع أن تشتري الكثير بأسعار منخفضة.
داخله، انشغلت امرأة شابة بترتيب البضائع. تفصل الآن ألواح التزلج عن البذلات الواقية من البلل عندما نقترب منها كي نشرح لها القصة. «أعلم هذا»، توفر علينا كثيرًا من عناء الشرح، «فقد اتصلتْ بي الشرطة. أنا الذي باع للرجلين تلك الأدوات». وقبل أن تستكمل حديثها طلبت أن تستأذن أولًا رئيسها في العمل. لكنها عادت بعد قليل لتقول إنها لا تستطيع الحديث معنا، وأننا لا يجب أن نذكر اسم المتجر في سياق هذه القصة. نقوم بجولة في المتجر، نتعمد بعدها أن نلتقي بها مرة ثانية «بالصدفة» قرب أرفف البذلات الواقية من البلل. «اشترى الرجلان بذلتين من هذا النوع»، تهمس قرب آذاننا بينما تشير بصورة خاطفة نحو بذلة بعينها معلَّقة. تلتفت في قليل من التوتر قبل أن تستطرد: «أذكرهما، ولكن بالكاد. كانا رجلين صغيري السن، ربما في بداية العشرينات، من المهاجرين، ربما تخمن من هيئتيهما أنهما من أفغانستان».
بعد العثور على جثة أحدهما في تيكسيل، كانت الشرطة الهولندية قد التقطت صورًا لها وأرسلتها إلى خبير بريطاني أعاد بناء ملامح الوجه. عرضنا على بائعة المتجر تلك الصورة. «لا أستطيع أن أجزم، لا أذكر تمامًا». هل ذكرا أي شيء عما كانا ينويان عمله بهاتين البذلتين؟ «كلا، لكن ما سمعته أنهما كانا ينويان السباحة في اتجاه قارب صغير يحملهما بعد ذلك إلى إنغلترا». وهل يشتري المهاجرون في هذه المنطقة كثيرًا من هذه البذلات؟ «سمعت من بعض هؤلاء الذين يعملون هنا أن هذا أمر يحدث مرة كل شهر تقريبًا، ولا أعلم أي شيء آخر».
كانت مشكلة اللاجئين في كاليه قد بدأت عام 1999؛ ففي حظيرة قرب النفق فتحت منظمة الصليب الأحمر الدولية مركز سانغات للاجئين. كان الهدف منه عندئذ توفير مأوى لنحو مائة من لاجئي كوسوفو الألبان الذين فروا من الحرب في البلقان. وبعد أقل من ثلاث سنوات، صار سانغات فضيحة وخُرّاجًا سياسيًا لكل من فرنسا وبريطانيا. تحول مائة لاجئ ألباني إلى 1600 لاجئ من الشرق الأوسط وأفريقيا، يحاول المئات منهم كل ليلة الوصول إلى إنغلترا عن طريق الاختباء داخل شاحنات في طريقها إلى النفق أو العبّارة. تبادلت الدولتان الاتهامات حول المسؤولية عن ذلك.
في إحدى المرات، وقعت مشاغبات بين لاجئين من أعراق مختلفة، قام البعض منهم بعدها بإحداث ثغرات في السور الشائك واقتحموا مدخل النفق. «أوقفوا الغزو»، كان العنوان الرئيس لجريدة ذا ديلي إكسبريس البريطانية. وفي ديسمبر/كانون الأول عام 2002، أعلن وزير الداخلية البريطاني، ديفيد بلانكِت، أن فرنسا وافقت على إغلاق سانغات. ورغم ذلك، استمر اللاجئون في الوصول إلى هذه البقعة. الشيئ الوحيد الذي اختلف أنه لم يعد لهم مكان يؤويهم.
و من ثم، بدأوا في ابتكار ملاجئ لهم. بعضهم يعيش في الشوارع، وبعضهم الآخر ينشئ مجتمعات عشوائية صغيرة، لكن معظمهم يستقر في بقعة صناعية تنتمي لواحدة من كبرى شركات إنتاج ثاني أكسيد التيتانيوم. كانت هذه أول «غابة» في كاليه.. غابة ثاني أكسيد التيتانيوم.
بعد الظهر، في ما يسمى الآن الغابة الجديدة، يقودنا هينوك البالغ من العمر 26 عامًا وقد فر من الإرهاب في إريتريا قبل نحو شهر. يرتدي سروالًا من الجينز وسترة رقيقة. يتحدث ببطء ولا يقول كثيرًا ولديه عينان متعَبتان رأتا الكثير، كما هو واضح، حتى وصلتا إلى هنا. يأخذنا إلى منطقة إريترية من الغابة؛ فالمهاجرون هنا يلتصقون داخل جماعاتهم العرقية في مواجهة الآخرين. «هذا مكان خطر»، يحذرنا هينوك، «نحن نعيش في برد، ولا ماء لدينا.. فقط لدينا ثعابين. ليس هذا مكانًا لحياة آدمية».
من أين أتى كي يحق له أن يشكو من الحياة في أوروبا الغربية؟ يشرح هينوك أنه ذهب إلى السودان قبل ثمانية أشهر، ومن هناك عبر الصحراء الكبرى في اتجاه ليبيا التي تعاني من الحرب الأهلية وغياب الأمن والقانون. هناك، قُبض عليه وسُجن لثلاثة أسابيع لا يدري لماذا. الجنود ورجال الشرطة في رأيه فاسدون حتى النخاع. اشترى منهم حريته بخمسمائة دولار أمريكي، لكن الأمر تطلّب مبلغاً أكبر كي يتخذ خطوته التالية. بعثت له أسرته في إريتريا دعمًا ماديًا توجه إثر استلامه إلى طرابلس حيث التقى بمن يعملون في تهريب البشر. دفع لهم 1700 دولار أمريكي فحشروه في قارب صغير شق طريقه عبر البحر الأبيض المتوسط.
«الموت في إريتريا كالموت في ليبيا كالموت في عُرض البحر، فلماذا لا أحاول؟»، يدلف هينوك إلى إطراقة وهو يتذكر زوجته، بيثيليم، صاحبة العشرين عامًا، وطفيليهما، فاير-آب هينوك، صاحب العشرين شهرًا، اللذين تركهما وراءه في إريتريا. «أفكر فيهما طول الوقت، في كل ثانية».
قبل أن يتمكن من الإجابة على الأسئلة التي جئنا من أجلها، حاول مهاجر إثيوبي أن يسرق المصور الذي كان واقفًا خارج الخيمة. غضب الإريتريون وحاولوا الإمساك به لكنه هرب. «عليكم أن تتحركوا الآن؛ فربما يعود مع مزيد من أصحابه». وبعد ساعات قليلة، تندلع مشاجرة بين السودانيين والإريتريين. السبب؟ الدور الآن على من كي يحاول الاختباء في إحدى تلك الشاحنات العابرة في اتجاه إنغلترا. استُخدمت السكاكين أثناء المشاجرة، وانتهى الحال بامرأة في المستشفى بعد احتراق الخيمة التي تؤويها.
جورج جيليه، عجوز على المعاش تطوع للعمل كموظف إغاثة في كاليه قبل أربع سنوات. كل يوم يقود ناقلة صغيرة قديمة بيضاء اللون كي يوزع الأغطية والأطعمة والأقمشة المشمعة. لا تكفي أبدًا، مهما حاول أن يجلب من كميات. نسأله عن كيفية عمل المهربين فيقول: «منتشرون في كل مكان، ولكن من وراء ستار. ستجدهم غالبًا أكراد أو أفغان أو ألبان. الألبان هم الأسوأ، ولو كنت مكانك لابتعدت. لو لمحوا كاميرا معك سيقتلونك».
كل واحد هنا لديه شج من جرح، ظاهر على وجهه أو في موضع من جسده، أو مستتر في روحه أو في قلبه. المهاجر الأفغاني، خليل خامان خليلي البالغ من العمر 26 عامًا، يحمل النوعين. تفجؤك بطنه بشج ممتد من أعلى القفص الصدري حتى موضع السرة. «إنها طالبان»، يقول وهو يعيد ترتيب ملابسه فوق بطنه. كان يعمل في شركة للبناء استأجرها حلف الناتو منذ عام 2007، كما كان يعمل في قاعدة عسكرية في شوراباك في مقاطعة هلمند. قبل خمسة أشهر، اختُطف وحُبس وطُعن في بطنه بينما كان في طريقه للقاء صاحب عمل جديد. «كل الأفغان الذين عملوا لحساب حلف الناتو يعيشون في خطر»، كما يقول. نجح في الإفلات بحياته بينما كان أحد الحراس مخمورًا، وبمساعدة بعض الأصدقاء استطاع الوصول إلى كابول، ومنها نزح إلى أوروبا. على الحدود من إيران إلى تركيا، اتُّهم بأنه إما ينتمي لداعش أو أنه جاسوس أفغاني. يقول إنه تعرض للتعذيب ليومين قبل أن يفهموا أنه حقًّا لا يملك ما ينفعهم. بقية قصته تمتلئ بأشباح المهربين، وبفصل من النزوح مشيًا على الأقدام عبر شبه جزيرة البلقان. اخترق الحدود إلى المجر والاتحاد الأوروبي من خلال غابة قرب قرية صوبوتيتسا على الحدود. ومن هناك تقمص شخصية رجل أعمى في رحلة بالقطار إلى باريس، ومن ثم إلى كاليه. «حتى هنا لا أشعر بالأمان. كلما مر الوقت كلما زاد اكتئابي».
على مدى الأيام العشرين التي قضاها هنا حتى الآن، حاول خليل خمسًا وعشرين مرة أن يعبر إلى إنغلترا بصورة أو بأخرى كي ينضم إلى أخيه الذي يدرس علوم الكمبيوتر، لكنه فشل في كل مرة. يحلم هو بأن يصير طبيبًا جراحًا يخدم في الجيش وبأن يعود إلى أفغانستان. «أنا مضطر إلى اقتفاء الحرص في محاولاتي للوصول إلى إنغلترا نظرًا لحالتي الصحية، لكنني حين أتعافى ستكون لديّ قدرة أكبر على المخاطرة، وسأصل إلى هناك».
نسأله إن كان سمع عن مهاجرين حاولوا الوصول إلى هناك عومًا فيهز رأسه ضاحكًا: «نحن هنا نستحم بالكاد». نعرض عليه الصورة التي رسمها الخبير البريطاني لصاحب البذلة الواقية من البلل. «يبدو أفغانيًا، لكنني جديد على هذا المخيم. الناس يأتون إلى هنا ثم يختفون سريعًا إذا استطاعوا».
ينتشر خبر وجودنا فتأتي مجموعة أخرى من سكان المخيم من الأفغان. يدعوننا إلى شاي داخل خيمة يعيش فيها عشرة لاجئين من منطقة بانجشير. نرى مقبلات بسيطة من البصل والبطاطس، وعربة تسوّق بها أرز ومعكرونة، وموقدًا بريًّا يتوسطه إبريق كبير لعمل الشاي. لم يكونوا أول من قص علينا حكايات عن العنف الذي تمارسه الشرطة هنا بحقهم.
أحدهم، وقد اكتسى ذراعه الذي يبدو مكسورًا بالجص الأبيض، يقول إنه وقع على ذراعه أثناء فراره مع آخرين أمام الشرطة التي كانت تطاردهم. «لم نفعل شيئًا. ما عسانا نفعل؟ الشرطة هنا في موضع الأسد ونحن في موضع قطيع من الجواميس».
كثير من المهاجرين الذين التقيناهم يزعمون أن الشرطة ضربتهم بالعصي وركلتهم بالأرجل ورشت رذاذ الفلفل في أعينهم من مسافة قريبة عندما اكتشفت وجودهم مختبئين في الشاحنات العابرة. تتوافق هذه الروايات مع تقرير لمنظمة هيومان رايتس ووتش سيصدر في يناير/كانون الثاني القادم مبني على شهادات جُمعت من أربعة وأربعين مهاجرًا في كاليه. تنفي الحكومة الفرنسية ذلك وتزعم أن المنطمة الدولية لم تتحر الدقة في الوصول إلى الحقائق.
قبل أسابيع، نشرت حركة «تضامن مع مهاجري كاليه» شريطًا كان قد صُوِّر في الخامس من مايو/آيار هذا العام يدعم شهادات المهاجرين، وتظهر الشرطة أثناءه وهي ترغم المهاجرين المختبئين في الشاحنات على الخروج باستخدام غازات مسيلة للدموع، ثم تضربهم بالعصي وتركلهم وتدفعهم بقسوة إلى عُرض الطريق.
أمام هذا، تقول السلطات إنها ستفتح تحقيقًا في الأمر، بينما تفكر شرطة كاليه في استخدام كاميرات مراقبة كي يثبتوا للعالم أن المهاجرين لا يتركون لهم خيارًا في بعض الأحيان سوى استخدام القوة. «لا توجد أدنى فكرة لدى بقية العالم عن الطريقة التي يعاملوننا بها هنا. اذهب وأخبرهم عن معاناة البشر في مخيم الغابة»، هكذا يرجونا خالد الذي يبدو كأنه زعيم الخيمة التي نجلس فيها الآن.
كان خالد قد عاش لعدة سنوات في إنغلترا، ثم رُحّل منها بعد أن ارتكب «تصرفًا غبيًا»، على حد قوله. الآن صار له في كاليه أربعة أشهر. عندما عرضنا عليه صورة صاحب البذلة الواقية من البلل قال: «يبدو من الهزارة (طائفة تتحدث الفارسية وتتبع المذهب الإثناعشري وتنتشر في أواسط أفغانستان وباكستان).. هم أفغان لكن أصولهم منغولية.. لكنني لم أسمع عن أحد اشترى بذلة واقية من البلل كي يسبح بها، وأنا أقدم ساكن في هذا المخيم. إنه لأمر مؤسف أن يكون قد خرج من هنا ورغم ذلك لا يستطيع أحد التعرف على هويته».
نشكر خالد وجماعته على الشاي ونواصل سعينا بين الخيام بحثًا هذه المرة عن مهاجري الهزارة. كانت هذه بقعتهم، لكنّ معظمهم رحل، كما يقول لنا مهاجرون آخرون نعرض الآن عليهم الصورة ونسألهم. تبدو علامات القلق على وجه مترجمنا الذي كان هو نفسه لاجئًا في كاليه قبل أن يتحول إلى صحفي وقد نجح في الوصول إلى لندن حيث أسس محطة إذاعية تعنى بالشؤون الأفغانية.
«خبّئ الصورة الآن»، يهمس المترجم، «بعضهم يعتقد أنكم إما من الشرطة أو مهربون تنتحلون مهنة الصحافة، وأنكم تحاولون القبض على أحد ما. لا بد أن نختفي من هنا». وكي يزيد المشهد تعقيدًا يلفت المترجم أنظارنا إلى حقيقة أن كثيرًا من الأفغان الذين ضيّفونا قبل قليل عاشوا قبل ذلك في إنغلترا ومعهم هواتف ذكية وأرقام هواتف بريطانية. أهم مهربون؟ لا يستطيع مترجمنا أن يقطع بذلك وإن كان يرجح أنهم ربما يكونون حلقة اتصال مع مهربين.
تغيب الشمس عن الغابة، ويبدأ الظلام في إسدال أستاره عليها فتدب الحركة في أرجاء المخيم.. بهدوء. يرتدي مهاجرون ملابس داكنة اللون ويحملون حقائبهم الصغيرة ويشرعون في المشي خفافًا، بعضهم في اتجاه مدخل العبّارات، وبعضهم الآخر في اتجاه النفق.
يخيم الآن هدوء شديد على المخيم. المنطقة التي كنا فيها قبل قليل في وسطه شبه مهجورة في هذه اللحظات. نستغل الفرصة ونسأل بعضًا من هؤلاء الذي لم يحن دورهم في محاولة الهرب. لكنّ أحدًا لم يسمع عن أحد اشترى بذلة واقية من البلل كي يسبح بها إلى الشاطئ الآخر. نعرض الصورة عليهم، لكنّ أحدًا لا يعرف من عساه يكون. نقترب من شرطي لم يكن يفعل الكثير. «تسألني عما إذا سبح أحدهم إلى الشاطئ الآخر؟»، يتأكد أولًا من أنه سمع السؤال جيدًا مستغربًا قبل أن يهز رأسه، «على الأقل لم أسمع أنا بشيئ من هذا القبيل، لكننا على أية حال لا نذرع الساحل بالدوريات ولا نعرف كل ما يحدث».
من شاطئ كاليه نرى الآن العبّارة «فخر بورغوندي» وهي تبدأ في الانسياب من مياه الميناء نحو عُرض القنال في اتجاه ميناء دوفر في إنغلترا. تحت أرضية العبّارة، في باطنها، داخل حاويات وداخل شاحنات يقبع الآن مهاجرون أدركوا لتوهم أن أملًا يبرق. لقد حبسوا أنفاسهم لدى نقطة التفتيش وفي ما وراءها بينما انتشر ضباط الشرطة وكلابها بحثًا عن أي نفَس آدمي أو غير آدمي. لا بد أنهم سمعوا صليل الجنازير الثقيلة وهي تثبت إطارات الشاحنات في مواضعها على جسد العبّارة، ولا بد أن صرير الزلاجة الخلفية للعبارة وهي ترتفع إلى أعلى كي تشكل سور أمان كان سيمفونية في آذانهم. هم الآن في أمان ولا يفصلهم عن إنغلترا إلا تسعون دقيقة.
.....
في حقل للمقابر على جزيرة تيكسيل في شمالي هولندا، في زاوية من المربع E، بين قبر يحمل اسم أنيكا مولينار فان دن برنك وقبر يحمل اسم آنا كورنيليا أليدا بوير، يقبع قبر لا يحمل اسمًا لأحد، ولا شاهدًا ولا عبارات تأبينية ولا حتى «ارقد في سلام». لا يوجد سوى بصمة حذاء لإنسان واحد انطبعت على جانب من كومة التراب الطازج التي أُهيلت فوق القبر.
«لكَم أحب لو استطعت أن أمنحه اسمًا»، يتحسر المحقق الهولندي، يون فيلزينباخ، الذي حضر بنفسه أثناء دفن رفات صاحب البذلة الواقية من البلل، «لا أسرة على وجه الأرض تستحق أن تحيا في عذاب المصير المجهول».
.....
قبل مغادرتنا كاليه، يلفت مترجمنا أنظارنا إلى صفحات على موقع فيسبوك تُعنى بشؤون الأفغان الذين يتواصلون من خلالها. نقرر أن نضع صورة صاحب الجثة، التي رسمها الخبير البريطاني، مع جانب من المعلومات على بعض هذه الصفحات.
بعد يومين، تقع عينا موظفة إغاثة فرنسية في كاليه على الصورة والمعلومات. تتصل بنا كي تقول إنها كانت على اتصال مع رجل سوري يعيش في إنغلترا وأن هذا الرجل يعرف سوريًا آخر يبحث عن ابن أخيه المفقود لشهور، وأن هذا كان قد شوهد في كاليه قبل انقطاع أخباره. بعد ثلاثة اتصالات هاتفية في لغة إنغليزية ركيكة نعلم الآن قصة الشاب معاذ من سوريا.
لقراءة الفصل الثالث اضغط هنا
اشترك الآن لتصلك أهم الأخبار لحظة بلحظة


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.