جدول امتحانات الصف الثالث الابتدائي 2025 الترم الثاني محافظة قنا    نماذج امتحانات الصف الثاني الثانوي pdf الترم الثاني 2025 جميع المواد    رئيس الوزراء يتابع الموقف التنفيذي لتطوير أرض مطار إمبابة ومنطقة عزيز عزت    أشرف العربي: رغم التحسن الملموس في أداء التنمية في مصر إلا أنه لازال أقل من المأمول    700 جنيه شهريا.. قوى النواب توافق على زيادة الحافز الإضافي للعاملين بالدولة    موعد وصول رسالة الأولوية للمتقدمين لحجز شقق سكن لكل المصريين    بتكلفة 24 مليون جنيه.. محافظ الشرقية يتفقد أعمال توسعة ورصف طريق جميزة بني عمرو    الذهب أم بيتكوين؟.. من المنتصر في سباق التحوط المالي لعام 2025؟    مدير المستشفى الإندونيسي بعد حصار الاحتلال: ماذا قدمت لنا القمة العربية بالأمس؟!    المصري الديمقراطي يشيد بكلمة الرئيس السيسي في القمة العربية: مصر تتحمل مسؤوليتها التاريخية في ظل غياب مخزٍ لعدد من القادة العرب    رومانيا.. انتخابات رئاسية تهدد بتوسيع خلافات انقسامات الأوروبي    مستشهدًا ب الأهلي.. خالد الغندور يطالب بتأجيل مباراة بيراميدز قبل نهائي أفريقيا    الحماية المدنية المدنية تنقذ مدرسة من حريق داخل جراج سيارات في حدائق الاهرام    «تعليم الشرقية»: أكثر من مليون طالب وطالبة أدوا امتحانات المواد غير المضافة للمجموع    اليوم.. نظر استئناف المتهم الأول بقتل «اللواء اليمني» داخل شقته بفيصل    سالي عبد المنعم: المتحف القومي للحضارة يعكس ثروتنا الحقيقية في الإنسان والتاريخ    اليوم في "صاحبة السعادة" حلقة خاصة في حب نجم الكوميديا عادل إمام أحتفالا بعيد ميلادة ال 85    هيقفوا جنبك وقت الشدة.. 5 أبراج تشكل أفضل الأصدقاء    في أجندة قصور الثقافة.. قوافل لدعم الموهوبين ولقاءات للاحتفاء برموز الأدب والعروض المسرحية تجوب المحافظات    التعليم العالي: القومي للبحوث يوجه قافلة طبية لخدمة 3200 مريض بمشاركة 15 طبيبًا في 6 أكتوبر    موعد مباراة الأهلي وباتشوكا الودية استعدادًا لكأس العالم للأندية    الثلاثاء.. قطع الكهرباء عن مركز طلخا فى الدقهلية 3 ساعات    غدًا.. انقطاع المياه عن مدينة شبين الكوم وضواحيها    مصدر ليلا كورة: اتجاه لإلغاء اجتماع اتحاد الكرة مع أندية الدوري    حفيد عبد الحليم حافظ علي فيس بوك : الواحد لو اتجوز هينكر الجواز ليه.. شيء مش عقلانى    خطوات التقديم للصف الأول الابتدائي 2025-2026 والمستندات المطلوبة    للمرة الرابعة.. محافظ الدقهلية يفاجئ العاملين بعيادة التأمين الصحي في جديلة    «أنتم السادة ونحن الفقراء».. مشادة بين مصطفى الفقي ومذيع العربية على الهواء    الهلال الأحمر الفلسطينى: خطر توقف سيارات الإسعاف يهدد بكارثة صحية فى غزة    تجديد حبس تاجر ماشية 15 يوما لاتهامه بقتل عامل فى أبو النمرس    سعر تذكرة الأتوبيس الترددي الجديد.. مكيف وبسعر أقل من الميكروباص    يحذر من مخاطر تحرير الجينوم البشري.. «الخشت» يشارك بمؤتمر المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية بالكويت    شوبير يحرج نجم الأهلي السابق ويكشف حقيقة تمرد رامي ربيعة    إصابه 13 شخصا في حادث تصادم بالمنوفية    أوكرانيا: ارتفاع عدد قتلى وجرحى الجيش الروسي إلى 973 ألفا و730 فردا منذ بداية الحرب    1700عام من الإيمان المشترك.. الكنائس الأرثوذكسية تجدد العهد في ذكرى مجمع نيقية    زيلنسكى ونائب ترامب وميلونى.. الآلاف يحضرون حفل تنصيب البابا لاون 14    وسائل إعلام إسرائيلية: نائب الرئيس الأمريكي قد يزور إسرائيل هذا الأسبوع    سحب 944 رخصة لعدم تركيب الملصق الإلكترونى خلال 24 ساعة    في ذكرى ميلاده ال 123، محطات فى حياة الصحفي محمد التابعي.. رئاسة الجمهورية تحملت نفقات الجنازة    الرقية الشرعية لطرد النمل من المنزل في الصيف.. رددها الآن (فيديو)    الأزهر للفتوى: أضحية واحدة تكفي عن أهل البيت جميعًا مهما بلغ عددهم    ضبط 48.4 ألف مخالفة مرورية متنوعة خلال 24 ساعة    مصرع شخصين وإصابة 19 آخرين إثر اصطدام سفينة مكسيكية بجسر بروكلين    متى تقام مباراة اتلتيكو مدريد ضد ريال بيتيس في الدوري الاسباني؟    «الرعاية الصحية» تعلن اعتماد مجمع السويس الطبي وفق معايير GAHAR    10 استخدامات مذهلة للملح، في تنظيف البيت    مصطفى عسل يهزم علي فرج ويتوج ببطولة العالم للإسكواش    براتب 15 ألف جنيه.. «العمل» تعلن 21 وظيفة للشباب بالعاشر من رمضان    النسوية الإسلامية (وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ): أم جميل.. زوجة أبو لهب! "126"    رئيس جامعة القاهرة: الجامعات الأهلية قادرة على تقديم برامج تعليمية حديثة.. ويجب استمرار دعمها    خطوة مهمة على طريق تجديد الخطاب الدينى قانون الفتوى الشرعية ينهى فوضى التضليل والتشدد    استشهاد طفل فلسطيني وإصابة اثنين بجروح برصاص إسرائيلي شمال الضفة الغربية    نشرة أخبار ال«توك شو» من المصري اليوم.. في أول ظهور له.. حسام البدري يكشف تفاصيل عودته من ليبيا بعد احتجازه بسبب الاشتباكات.. عمرو أديب يعلق على فوز الأهلي القاتل أمام البنك    سيراميكا كليوباترا يقترب من التعاقد مع كريم نيدفيد    الأزهر: الإحسان للحيوانات والطيور وتوفير مكان ظليل في الحر له أجر وثواب    هزيمة 67 وعمرو موسى    حكم صيام الأيام الثمانية الأولى من ذي الحجة.. دار الإفتاء توضح    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



صنع الله إبراهيم يستعيد حياة برلين الشرقية
نشر في المصري اليوم يوم 12 - 02 - 2015

أصبح للروائى الفذ صنع الله إبراهيم أسلوب متميز فى السرد لا يشبهه كاتب آخر، قلت عنه منذ عهد بعيد فى تصنيفى للأساليب السردية العربية إنه تسجيلى توثيقى، لكن خواصه أشد غوراً من ذلك، فهو يتتبع مشاهد من الحياة اليومية، حيث يرى أنها مفعمة بالشعرية، من منظور شخص واحد – مع ولعه الشديد بالشراب والجنس – ذى رؤية سياسية غالبة، مع الحرص على وصف الأفعال فى جمل متتالية قصيرة، أكثر من حرصه على الأقوال والخطابات، لكنه لا يكاد يرى أو يفكر بأبعد من موقع قدميه، مقصوص الجناح فى خياله لدرجة مدهشة، مع أن السرد فى جملته يبنى خيمة متخيلة عريضة للمكان والزمان والوقائع التى يسجلها حرفيا كأنه يقوم بعملية «جرد» لمفردات تفاصيل حياته اليومية بدأب التقارير المباشرة دون كلل.
وإذا كانت مهمة الرواية فى جملتها هى كتابة تاريخ الروح، والتقاط ذبذبات الوجدان وخوالج الجسد للفرد فى قلب الجماعة فى مراحل معينة حتى لا يطويها النسيان، بحيث تصبح الذاكرة المتجددة الحية للشعوب وقد زادتها الصورة البصرية جلاء ووضوحاً، فإن الرواية الخامسة عشرة – الجديدة – لصنع الله إبراهيم، وهى «برلين 69» تمسك بخيط مشدود إلى قلب وعقل إنسان مصرى، متوسط الوعى والمعرفة، ليسجل بعدسة راصدة مظهر ومخبر حياته المتدفقة فى برلين الشرقية نهاية الستينيات الماضية، بصبر لا ينفد، وحياد لا يخيل، وقدرة فذة على استحضار الأماكن والمشاهد والأسماء التى تعجز أى ذاكرة عن استعادتها وبث الحياة فيها دون الاستعانة بعامل مساعد، وهنا يكمن سر السرد على طريقة التوثيق، فإما أن يحتفظ الكاتب بمئات البطاقات التى دون فيها هذه التفاصيل، وإما أن يكون قد طبع فى ذاكرته – مثل راويه المولع بالتصوير – هذه العناصر، فالراوى – واسمه صادق الحلوانى – ولابد أن ننتبه إلى رمزية هذه التسمية – موظف فى وكالة الأنباء الألمانية بالقاهرة، ينقل إلى برلين ليعمل محرراً بالقسم العربى بالمقر الرئيسى للوكالة، ومنذ المشهد الأول يضعنا الكاتب فى قلب العصر وتداعياته، ويذيقنا طعم خطاباته، فالأخ صادق يتبادل الحكى بسلاسة مع الراوى العليم دون أن نشعر بالفارق بينهما إلا إذا دققنا فى الضمائر والمعلومات، لكن تعليقاته تتماهى مع الراوى بأشكاله المتعددة،
فهو يقول مثلاً عن حصاد أخبار اليوم الأول بأن أهم ما فيها هو: «تصريح رئيس مجلس الدولة فى ألمانيا الديمقراطية وزعيم حزبها الحاكم فالتر أولبريشت عن تفوق النظام الاشتراكى على الرأسمالى، وتصريح الأدميرال جورشكوف قائد الأسطول السوفييتى بمناسبة وجود الأسطول فى البحر الأبيض المتوسط بأنه كى تدرك الولايات المتحدة أن السيادة على البحار لم تعد وقفاً عليها، ثم تقرير عن تدهور الموقف الأمريكى فى فيتنام بعد أن أصبح الثوار على وشك اقتحام العاصمة سايجون، يليه خطاب للرئيس جمال عبدالناصر يتحدث فيه بصراحة عن المعاناة النفسية القاسية منذ نكسة 67، ولاشك أن هذه الإشارات التى ترسم المناخين الدولى والمحلى فى تلك الفترة بدقة يمكن أن تتيسر دون مجهود توثيقى مقصود.
من الشارع إلى المرقص:
يشير الراوى بمرح إلى أن الهدف الأساسى لأى مصرى كان يسافر إلى ألمانيا فى تلك الفترة كان ثقافياً، وإن صحبته رغبة ملحة أحياناً فى شراء سيارة مستعملة من برلين الغربية، لكن مفهوم الثقافة عنده طريف متأثر بما شاع فى مصر بعد ذلك عن «الفيلم الثقافى»، بعكس مفهومها عند من كانوا يستقبلونه هناك فيخصصون له مرافقاً أو مرافقة تقوم بتثقيفه وإقناعه بمنجزاتهم الاشتراكية، وربما كان ذلك هو المحور الدلالى للرواية، التثقيف بنوعيه، فالمرافق – وهو هنا رجل حزبى مشحون بالمعلومات، يشرع فى عمليته منذ اليوم الأول، فيصحب صادق إلى الشارع الرئيسى فى المدينة، وهو الذى تقع فيه الوكالة، وهو شارع «فريدريش شتراسه» وبه محطة القطار، ونقطة العبور إلى برلين الغربية، ويعلوه جسر المترو، وعلى بعد خطوات منه المسرح الذى قدم عليه بريخت أشهر أعماله قبل الحرب (يذكر اسم المسرح) وهناك أيضاً الرايخستاج – مبنى البرلمان – الذى استغل هتلر حريقه ليفرض قبضته الحديدية على البلاد، ملصقاً تهمة الإحراق بالشيوعيين، ثم يمضى الدليل ليذكر بقية المعلومات التثقيفية، فعلى الجانب الآخر من الشارع منزل أقام به كارل ماركس بعض الوقت، تليه وكالة الأنباء، ثم أشهر نقطة وهى التقاطع مع شارع «إنتردين ليندن» (تحت شجر الزيزفون) حيث الفندق الذى حمل نفس الاسم والذى أخذت ردهته وباره وقتاً طويلاً منه، وهدم بعد ذلك فى عام 2006، كان هذا الشارع الذى يقطعه حائط برلين فى المنتصف يمثل مركز المدينة قبل الحرب، أقيمت فيه العروض العسكرية البروسية، ومر منه نابليون فى موكب النصر، وتحصن فيه الثوريون عامى 1848 و1918م، وعبره انطلق الآلاف لخوض الحرب العالمية الأولى وهم يهللون ويطلقون صيحات النصر وأشعل النازيون عام 1933 أكواماً من الحطب لحرق الكتب فيه، ومع أن من المفروض أن هذه البيانات كانت بحاجة للتذويب والانصباب الوئيد فى أذن السيد صادق حتى يندهش لها وينفعل بها وتدخل فى نسيج بطانة الرواية دون تعثر غير أن المولع التوثيقى شبه السينمائى لكاتبنا لا يجد حرجاً فى التدفق بها نقلاً مباشراً عن أى دليل تاريخى للمدينة احتفظ به هذه العقود كلها، كى يموقع أحداثه الصغيرة جداً ويخرط لها إطاراً خشبياً ضخماً تتوارى بتواضع داخله، لكن أطرف إشارة فى هذا المدخل، وهى ترتبط بالتثقيف بالمفهوم الشيق الثانى جاءت عن مقهى التليفونات،
وأذكر أننى سمعت مرة وصفه من بعض المبعوثين الذى أوفدوا إلى برلين الشرقية فلم أعرف كيفية نشاطه حتى وجدت وصفه المتقن عند «صنع الله» فى هذه الرواية، على أنه قد جعل من يقود صادق إليه ليس الدليل الحزبى الصارم، بل زميلا عراقيا اسمه فخرى، دارت بينه وبين المحرر المصرى حروب لغوية باردة وهو يصحح له الجمل والعبارات، فأراد أن يكسب وده فساقه إلى مرقص التليفونات – قرب نهاية الطرف الثانى من شارع «فريدرش شتراسه» وهو مبنى قديم من طابقين، يعود إلى بداية القرن (الماضى طبعاً) شأنه شأن المرقص ذاته، موائد عليها أجهزة تليفون متصلة ببعضها بعضا (ولابد أن لكل مائدة رقماً ظاهراً هو ذاته رقم تليفونها) ترفع السماعة وتطلب رقم إحدى الجالسات إلى أى مائدة تروق لك، وتعرف هى على الفور الرقم الذى يطلبها فتتطلع إلى صاحبه، وإذا أعجبها أخبرته بموافقتها فيتقدم إليها وينتقلان إلى حلبة الرقص والتعارف، وهنا ينتقل التثقيف من المعلوماتية إلى السلوكية التى كانت من أهم أهداف المسافرين حتى اليوم.
لكن الظاهرة اللافتة فى منظور الرد هنا أنه يتضمن كثيراً من الإشارات المستقبلية، لأن الرواية كتبت عن عام 1969 وفرغ المؤلف منها 2014 وجرت مياه كثيرة منذ ذلك الحين، كما رأينا فى إشارته السابقة إلى الفندق الذى تهدم، وغير ذلك مما يبرز المفارقات بين الماضى المندثر والحاضر المتغير، فنجده يشير إلى أن ألمانيا الديمقراطية كلها ستختفى فى عام 1990م بإتمام الوحدة الألمانية، وأن الحماس للنظام الاشتراكى فيها كان امتداداً للحماس للنظام النازى قبلها وأعقبه حماس للتجربة الرأسمالية، هنا نلمس تحول بنية الزمان الموازى لتحولات المكان والشخوص فى استباقات تقدم أمثلة للحركية وتعدل المنظور الآنى للرواية المحصور فى لحظة مغلقة، وبهذا تصبح وظيفة الاستباقات اختبار مدى الصلابة «الأيديولوجية» للمبانى والمفاهيم والرؤى، وتفعيل منطق التحولات الغالب على حركة الحياة بما يبرز تضاؤل الرؤية القاصرة ويكشف عن مصير الوجود البشرى كله.
وربما كان ولع الراوى بالتصوير الفوتوغرافى الذى يمارسه بحرفية شديدة فى مواقف عديدة من زوايا مختلفة وإصراره على تبئير عدسته معادلاً رمزياً لهذه التقنيات فى التصوير السردى، كما أن هناك بعض الإشارات الدالة على وعى الكاتب بطبيعة أسلوبه ومحاولة تبريره، حيث يورد على لسان كاتب يسمى «فايتس» أنه يقول فى مذكراته «إن أهم مادة هى التى يظن أنها أبعد ما تكون عن المادة الأدبية وهى حياته اليومية، فالسرد هو الفن الذى يحيل مادة الحياة اليومية إلى مادة فنية أدبية مهما خلا من الخيال المباشر والفانتازيا والغرائب وتوشح بلغة تقريرية خبرية مباشرة.
الحافة المدببة:
تتوزع أجزاء الرواية بين مدخل وأربعة فصول، ليس هناك طابع مائز لأى منها، فهى تندرج فى سياق سردى أملس متشابه بين صراعات الرفاق الصغيرة وصداقاتهم السطحية واستقبالهم للرفيقات الجدد على السرد غالبا دون أى حوادث ضخمة وحتى إجازة المصيف الذى يذهب إليها صادق دون رفيقته وتستغرق فصلاً كاملاً لا يكاد يحدث فيها شىء غير التحرشات المتبادلة بين الرجال والنساء بإيقاع مألوف يبعث على الملل من الحياة الروتينية التى لا يكسرها سوى بعض المفارقات التى تحدث من القادمين الجدد للشقق المشتركة طبقا للنظام السوفييتى، من ذلك مثلاً ما يرويه صادق من أنه استضاف صديقاً له للمبيت عندما فاته موعد طائرة مصر للطيران وجلسوا جميعا للعشاء، ومعهم «هيلدا» صديقة زميله فى الشقة الذى كان مسافراً حينئذ، وحين خلدوا إلى النوم هجم الضيف على حجرتها ظناً منه أنها سترحب به، لكنه فوجئ بها تصرخ طالبة النجدة وكان على الراوى أن يعتذر لها ويقتاده خارج الغرفة ولا يتركه حتى ينام، ومع أنها قصة داخل القصة غير أنها تكشف عن طبيعة الحياة الآلية المحبطة التى تدور حول الطعام والشراب والجنس دون أى مبادرات حيوية أخرى، وقد عمد الكاتب إلى ابتكار حيلة إبداعية غير معتادة ليجعل منها ختاماً لهذه السلسلة من الإحباطات، جعل هايدى رفيقة زميله الآخر فى السكن وصديقة مواطنه حلمى تلجأ إليه ليلفق لها تقريراً مخابراتياً عن السياسة المصرية والألمانية بعد أن جندت لهذه المهمة، يملى عليها صادق هذا التقرير الذى يبلور المضمون الأخير للرواية ورؤيتها الكلية حيث يؤكد أن «حلمى» يبدى إعجابه بما حققته ألمانيا الديمقراطية من إنجازات فى ميدان الصناعة والعدالة الاجتماعية والتعليم لفضل الحزب ويشيد بنظام التعاونيات الزراعية التى يمكن أن تفيد منها مصر،
لكنه لا ينسى أن يشير إلى تحفظه على رتابة التليفزيون الألمانى واعتقاده بأن الصحف المصرية تقدم تغطية خبرية أفضل من مثيلتها الألمانية، ثم يكتب عن سوء الوضع الداخلى فى مصر حينئذ وتنازع السلطة بين مجموعة على صبرى وهيكل الوثيق الصلة بالأمريكان، لكن الكاتب لا يلبث أن يصنع حافة مدببة لهذا السرد المسطح الأملس الخالى من الأحداث عندما يفاجئنا بأن هايدى، هذه الجاسوسة الساذجة تتشاجر مع رفيقها فتشنق نفسها على باب الشرفة المفتوح بأنشوطة تحكمها على رقبتها، لكن الموجع فى الأمر أن هذا الراوى يعود بعد مشاهدته لمنظرها مختنقة ليكمل تنظيف أسنانه بالفرشاة وكأن شيئاً لم يعد قادراً على أن يهز فيه عصباً واحداً، فيستعيد بذلك ما طبع العمل من آلية، وطغى على رفق الحياة وأحالها إلى مجرد صور منتزعة من ذاكرة رقمية خالية من المشاعر المتوهجة، وإن ظلت الرواية بعد ذلك نموذجاً ناضجاً وممتلئاً لهذا التيار السردى المفعم بالدقة التوثيقية.
اشترك الآن لتصلك أهم الأخبار لحظة بلحظة


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.