ونحن نستعد لسباق الانتخابات البرلمانية، يكثر الحديث عن أهمية مجلس النواب المقبل ومدى فائدته لتحقيق مصالح جماهير الناخبين والنواب أنفسهم والممارسة الديمقراطية فى البلد. ويبدو أن الاستعدادات لا تبشر بنتائج مختلفة من حيث صراع ومطالب الأحزاب، كما بدى فى التصريحات التى تلت اجتماعي الرئيس مع ممثلي الأحزاب، وكما بدى في استعدادات النواب للمعركة وموقف الإعلام والأهم حسبة الجماهير، وحتى لا يتهمنى أحد بالتحيز لوضع سياسي أو حزب في إطار الانتخابات المقبلة، أعيد التذكير بمقال كتبته أثناء الاستعداد للانتخابات الأولى عقب ثورة يناير، فهل تغير الأمر كثيرا أم أننا ندور في نفس الدوائر...أترك لكم الإجابة بعد قراءة المقال: «عقب ثورة يناير ظهر طوفان من الأحزاب والائتلافات التي تلعب في السياسة على الطريقة القديمة وبنفس أدواتها، كما ظهرت صحف وفضائيات تسعى لركوب حصان الثورة الجامح، لحساب النخبة المالية والسياسية، في محاولة للسيطرة على الشعب وضمان نسبة أكبر من المكانة والهيمنة و«ربط دماغ» الناس، وسعت النخبة المستبدة إلى نوع من البلبلة وتضليل الشعب، لضمان عدم توحده وانطلاقه في مسار رئيسي، وهو ما يعبر عنه المفكر البرازيلي باولو فريري بتحول الإعلام إلى أداة للقهر، تستخدمه النخبة الفاسدة أو «المصلحجية» من أجل تطويع الجماهير لأهدافها الخاصة، وهو ما شاهدناه بوضوح في اختراع أزمات وقضايا تشغل الناس رغم أنها مجرد «طنطنة إعلامية» سرعان ما تصطدم بإرادة جماهيرية في اتجاه آخر، مثلما حدث قبل الاستفتاء بين فريق «لا» النخبوي وفريق «نعم» الجماهيري، وبدا عقب ظهور النتائج أن الشارع في اتجاه والنخبة في اتجاه، ومثلما حدث ويحدث حاليا في انتخابات مجلس الشعب التي يتصارع فيها عشاق ومشتاقو السلطة، على تزوير إرادة الناخب، ليس عن طريق البلطجة والرشاوى والقهر القديم، لكن بالأدوات الجديدة التي شرحها بالتفصيل أستاذ علم الاتصال الأمريكي هربرت شيللر في كتابه المهم «مديرو العقول» الذي أثبت فيه أن القائمين على الإعلام يضخون الصور والمعلومات التي تساعدهم على إحكام السيطرة علينا وتوجيه معتقداتنا ومواقفنا، بل سلوكنا أيضا، وهذا التضليل يؤدي إلى حالة من الإغواء ووضع المفاهيم في مواجهة بعضها البعض بدلاً من المضي في مسار محدد للثورة يدخلها في متاهات متشعبة تنهكها في معارك صغيرة بعيدة عن الأهداف الرئيسية لها، فالثورة لم تقم مثلا لنقص في وسائل الإعلام أو الأحزاب. ولكن من أجل «العيش بكرامة وإنسانية وعدالة اجتماعية»، ولذا فإن تأسيس مصنع أهم من تأسيس حزب، وافتتاح مستشفى أو مدرسة أهم من افتتاح فضائية، لأن الحزب لن يحل مشكلة البطالة، والفضائية لن تحل مشكلة الإنتاج، فبعد الثورة لم تقدم لنا هذه المؤسسات الإعلامية إلا ما نعرفه فعلا، بل والأسوأ من ذلك، أنها تقدم لنا ما تعرفه هي وما تريد أن تضخه في رؤوسنا لتضللنا عما نريده، فأصبح الشعب يريد حسب مانشيتات الصحف و«زنّ» الفضائيات، حتى بدا أن أكبر إنجازاتها هو وضع الشعب في مواجهة بعضه البعض، من خلال تقسيمه تجاه القضايا والمؤسسات المطروحة من استفتاء ودستور وانتخابات ومجلس عسكري وحكومة وغير ذلك، وكلها معارك أثبتت كما يقول «شيللر» أن النخبة المتحكمة الجديدة (وهي بالمناسبة أقوى وأخبث وأخطر من النخبة الحاكمة القديمة) «تفبرك» أفكارا وتوجهات لا تتطابق مع حقائق الوجود الاجتماعي، أو حسب تعبيره حرفياً تعمد إلى إنتاج وعي مشوش لا يستطيع أن يستوعب الحياة القائمة، وإن بدا في مظهره الخارجي وكأنه انخراط في الثورة. وليس غريباً أن تجتذب أنشطة التضليل الإعلامي طبقاً لمبادئ السوق أذكى المواهب، نظرا لأنها تقدم أعلى الحوافز المادية والأدبية، وهكذا ينقلب عقل المجتمع ضد مصالح الجموع ويلعب لحساب مصالحه الفردية، وتتحول الديمقراطية من كونها أسلوب حياة إلى مجرد حلية أو فاترينة أنيقة يباع بسببها الكثير من السلع سيئة الصنع والسمعة. وتتيح الفرصة لأصحاب المصالح و«اللوبيهات» للتحكم من خلف ستار حرية التعبير في عقول الشعوب ووعيه، خاصة أن الثورة تؤدي بالضرورة إلى تغير سريع في تركيبة «الطبقات المهيمنة»، وتصنع فراغاً يسعى هؤلاء الطامحون للسلطة إلى شغله، وإعادة توزيع الأدوار بين الحكام والمحكومين، بحيث يمكننا أن نرى «متلقي الأوامر» في زمن سابق هو الذي يصدر الأوامر الآن، كما نجد بعض الخاضعين للتضليل أنفسهم وقد تحولوا إلى ممارسين لهذا التضليل، فهناك أشخاص وفئات تغير موقعها على رقعة الشطرنج في نوع من الانتهازية الجديدة، وهناك من يمارس نفس أخطاء النظام القديم، لكن بعد أن تم تلوينها بشعارات زائفة عن التحرير والتغيير». انتهى المقال الذي مر على كتابته ثلاث سنوات ولم نغادر الدائرة. مي عزام [email protected] اشترك الآن لتصلك أهم الأخبار لحظة بلحظة