السلطة والخيانة.. كلمتان تلخصان عقدة النص الشهير «ماكبث» لأسطورة المسرح الإنجليزى ويليام شكسبير ليسير أغلب المخرجين الذين قرروا الغوص فى أعماق هذه القصة فى طريق إبراز عواقب اختيار القائد البطل واندفاعه نحو بحور دماء لانهاية لها، تستنزف استقراره النفسى وسلامه الداخلى، فتضيع فرصته فى الاستمتاع بشهوة العرش الذى بلغه فوق الرقاب. واتجهت معظم المعالجات الدرامية – باختلاف جنسياتها وثقافات صناع العمل – نحو تجسيد الأحداث سواء فى أطر كلاسيكية بحتة لاتتجاوز حدود رسالة ومضمون النص المكتوب، أو صيغ تجريبية تستلهم المدرسة التعبيرية ولغة الجسد والمنهج العبثى كنوع من ابتكار تأويلات جديدة للنص وإضفاء دلالات وإسقاطات سياسية ترفع من مستوى نضج الرؤية الفنية وتسير بها نحو آفاق أرحب. واليوم أفرز إلينا مركز الإبداع الفنى جيلا جديدا من المخرجين الشباب يعلنون عن مواهبهم بقراءات متباينة للنص الشكسبيرى، وخرجت المخرجة الواعية وسام أسامة من صف الدفعة الثالثة للإخراج بعرضها المتميز «مكنون ماكبث»، بعد أن التقطت طرف خيط جديد فى نسيج النص لترسم منه لوحة إنسانية تبرز عطب الشخصية المحورية الذى صار لعبة فى يد وزوجته ليدى ماكبث، وانطلقت رؤيتها فى نفق مظلم تحت جلد ممثل مسرحى قرر تجسيد دور ماكبث، فتوحد معه نفسيا وجسديا وتحول إلى مريض على فراش المصحة النفسية فريسة لاضطراب العقل وفساد الروح، ومع الانتقال من منطقة إلى أخرى داخل النص تعرض تطور الخيانة واتساع دائرة الدم، يتداخل الطبيب المعالج مع متاعب وأوهام مريضه، ليدفع الطبيب حياته ثمنا للمقامرة التى خاضها أملا فى العلاج، فينتصر "ماكبث المريض" فى مجد زائف، ويظل قابعا فى قبر ضياعه النفسى غارقا فى هلاوسه وأوهامه وإدمانه للسلطة. طريق جديد وجرئ سارت فيه «وسام» مع فريق عمل ترك بصماته فى العرض بذكاء من 3 أضلاع شكلوا مثلث الأداء التمثيلى الذى هو عصب العملية المسرحية، فظهر أحمد الشاذلى فى ثوب ماكبث المريض متفهما احتياجات الدور من توافق عصبى عضلى فى التشخيص للحالة المرضية والانفصال عن الواقع فضلا عن ضرورة انضباط اللغة وقوة التعبير بها لضمان التأثير الإيجابى فى استقبال المتلقى للحدث الدرامى وتداعياته، وامتلك الشاذلى مفاتيح الشخصية التى منحتها إياه المخرجة، فاتسمت تعبيرات الوجه ونبرات الصوت بالطاقة المتوهجة والفهم الواعى لمراد الرؤية الإخراجية، باستثناء بعض المناطق التى غلب عليها الطابع التقليدى فى الانفعال والاضطراب، وكانت تقتضى منه مزيدا من الإبداع وتنوع الأداء ليتبلور اختلافه عن أى ماكبث آخر فى عروض سابقة. وتألقت هدير الشريف فى دور ليدى ماكبث باندماجها مع روح الساحرات وشكلت مع الشاذلى تناغما مريحا وإن كانت تحتاج إلى تدريبات على الخيال والتكنيك لإثراء موهبتها الواضحة حتى يكتمل نضجها وتكتسب قدرة أكبر على التجويد. وظهر وليد عبد الغنى إضافة ذكية للعرض بدور الطبيب خارج سياق العقدة الرئيسية إلا أن لونه الكوميدى السلس وبراعة تعبيراته رفعا من ترمومتر العمل على مستوى الإيقاع والانتقال الناعم بين المشاهد مستغلا الحركة المرسومة بحرفية ملحوظة فى التعامل مع المكان والفضاء المسرحى. وأمام هذا التابلوه الفنى لابد وأن نتوقف عند سينوغرافيا العرض التى غازلت عين المتفرج بديكورات ندى عبد المجيد وأزياء أحمد سامى المعبرة مما أجبر المشاهد على الربط بين الأشياء والتركيز فى مفردات البيئة المسرحية من أوتار منتشرة على الخشبة تشير إلى أعصاب الإنسان المشدودة دائما، وإكسسوارات وملابس الأبطال كتاج الملك المرصع بالحقن وبقايا جلسات العلاج والعقاقير بما يحمل دلالة على العقل المشوه بمرض السلطة الخبيث، وتضاعف جمال اللوحة البصرية بتناغمها مع الإعداد الموسيقى لمحمد عبد الستار المغذية لحالة التوتر والقلق المتصاعد، فضلا عن مناطق الإضاءة الموحية بالجو العام للمأساة وتفاصيلها الإنسانية، وتضافرت العناصر الإخراجية فى توليفة متماسكة البناء دراميا لنرفع القبعة لصناع العرض فى نهاية رحلتنا مع «مكنون ماكبث» الذى تحول إلى نقطة أخرى مضيئة فى تاريخ مركز الإبداع تحت إشراف عصام السيد وقيادة الربان خالد جلال.