دار الحوار بيننا حول «جمال البنا». قلت له بصراحة: «أتعجبُ ممن يتهمونه بالخرف وهو متوهج العقل. وأتعجب ممن يتهمونه بضعف العلم، وقد أنفق ثمانين عاما فى القراءة والاطلاع. وأتعجب ممن يتهمونه بالكيد للإسلام وأبوه العالم العابد، وأخوه المرشد الشهيد. رأيى الصريح فى جمال البنا كالتالى: «هو غير مُتهم عندى فى دينه وإخلاصه. بعض أفكاره أتفق معها، وبعضها لا أتفق معها. لكنه فى المُجمل ليس مُفكّرى المفضل، وأظن أن له بعض الشطحات، ولكنى - رغم ذلك - أعتقد أن وجوده مفيد». قال صديقى: «كيف؟». قلت: «مشكلتنا أننا لا نؤمن بالتنوع، ويتصور كل واحد أن الناس يفكرون بطريقته ويقتنعون بما يقتنع به، وترفض عقولهم ما يرفضه عقله. وبالتالى، ولأنه لا يستسيغ مقولات جمال البنا، ويعتبرها هرطقة صريحة، فإنه يتصور أنه لا لزوم له، ويغفل أن هناك طائفة تحتاج أفكاره بشدة». قال صديقى فى اهتمام: «حدثنى عن هذه الطائفة فربما كنت أحدهم». قلت: «أنت بالتأكيد منهم. اسمح لى أن أحلل شخصيتك. أنت ذكى جدا، متوهج العقل، باحث عن أصل الأشياء. ولأنك متدين بالفطرة، فقد شعرت فى صباك بعطش إلى الإيمان. وكان الخطاب الدينى يصور التاريخ الإسلامى نبعا صافيا يترقرق فى عذوبة ونقاء. صدقتهم شأنك شأن أى شاب آخر فى هذه المرحلة. لكنك كنت تختلف عنهم بتفكيرك النقدى وعقلك المتوهج وقدرتك على العودة إلى المصادر الإسلامية الأصلية. حينما عدت إليها صُدمت. وجدته تاريخ بشر ولم تجده تاريخ ملائكة. اكتشفت أن الخطاب الدينى السائد مُنتقى ولا يعرض الوقائع كاملة. وجدت أشياء لم يستسغها عقلك، وكان أمامك اختياران: أن تسدل على عقلك حجابا لتحفظ توازنك النفسى، أو أن تخوض تجربتك بشجاعة وتبحث عن الحقيقة منفردا، دون أن تُسلّم عقلك لأحد، وتتحمل مشاق الطريق. أمثالك من عشاق المعرفة وأصحاب التفكير النقدى موجودون فى المجتمع، ولكن بنسبة ضئيلة. هؤلاء يحتاجون المنهج العقلى الذى يمثله جمال البنا حتى يستعيدوا الثقة فى الدين. لكن المشكلة أن التيار السائد لا يهتم بهم، بل لا يعرف بوجودهم أصلا، وبالتالى لا يجدون أى فائدة لجمال البنا فيهاجمونه ويريدون أن يُسكتوه». قال مشاكسا: «أنت تؤمن إذن بأن الغاية تبرر الوسيلة. برغم شطحاته فوجوده ضرورى طالما يُقنع آخرين من أمثالى؟». قلت معترفا: «وما المانع طالما الغاية واحدة وهى الإيمان بالله والإسلام؟. أنا شخصيا غير مقتنع بالإعجاز العلمى فى القرآن، لكن طالما أنه يريح آخرين فلماذا أهدم سلامهم النفسى؟. قس على ذلك. هناك نخبة أتيح لها أن تحتك بالخارج وتطّلع على أفكارهم وتقرأ فى الأنثروبولوجيا وتاريخ الأديان. فلماذا نحرمهم من مفكر يُريحهم حتى لو كانت له شطحات؟». قال فى جد: «المسألة أعمق مما تتصور بكثير، وما تعتبره شطحات هو صميم المنهج، وسأحاول أن أثبت لك ذلك الآن».. غدا يتحدث الصديق. [email protected]