ربما ترانى قريباً من هول ما بى، أجرى فى الشوارع وأنا أحمل فى عنقى فرخا كبيرا من الورق أُلصِقَت عليه مجموعة منتقاة بفظاعة من أبشع صور الحرب الأهلية فى لبنان، صور بها أحياء مهجورة وبيوت ميتة وشوارع يغطيها دخان القنابل وجثث منتفخة ملقاة فى الشوارع لأطفال ونساء وشيوخ وشباب كانوا كالورد، وكلهم قُتِلوا على الهوية، لأن قاتليهم ظنوا أنهم ينتصرون لدينهم ويتقربون إلى الله، ولأن أغلب القتلة لديهم دائما أسباب للقتل تبدو وجيهة، خصوصاً أولئك الذين يقتلون نيابة عن الله. أعلم أن كثيرا من الذين سيروننى وأنا أجرى سيشيحون بنظرهم عنى وسيصبون علىّ اللعنات لأننى أُبَشِّر على مصر لأن «إحنا مش كده»، وللأسف سيضطروننى لأن أبذل مزيداً من الجهد فى الأرشيف لكى أعلق إلى جوار الصور قصاصات ورقية من صحف لبنان كانت تتحدث قبل اندلاع الحرب الطائفية عن «لبنان بلد التعايش بين الطوائف وجنة الله فى الكون»، سأفعل لعلّى أذكّرهم بأن نيل الأمانى ليس بالتمنى، وأن النجاة من السقوط فى الهاوية تكون ببساطة باتخاذ طريق آخر غير الطريق المتجه إليها «دايركت»، لن ننجو من الهاوية ونحن نجرى نحوها بكل إصرار يُغَذيه يقينٌ غبىّ بأن الله سيلطف بنا، لأنه كما نعتقد زوراً، يضعنا فى منزلة أخرى دوناً عن كل عبيده الذين اختصهم بسننه وقوانينه. أعلم أيضاً أن كثيراً من الذين سيروننى وأنا أجرى فى الشوارع بصورى وقصاصاتى، سيستوقفوننى لكى يقولوا لى «أصلك مش فاهم.. الغلطة بدأت إمتى.. طب إنت عاجبك كده.. طب يرضيك اللى قاله فلان.. طب يصح إننا نسكت على علان»، وللأسف لا أدرى إذا كنت سأجد من يساعدنى على إيجاد تسجيلات صوتية ومرئية يتحدث فيها فرقاء الفتنة فى لبنان قبل اندلاعها، لنكتشف أن كل فريق كانت لديه وجهة نظر تبدو له صائبة ومنطقية وواقعية وتستحق الدفاع عنها حتى الموت، والشهادة لله أن الجميع لم يقصروا أبداً فى ذلك، فحتى عندما عاد لبنان إلى الحياة بعد سنوات من الموت، لايزال فرقاء الفتنة مصممون على بقائه فى حالة موت إكلينيكى أبدى، ولايزال الجميع يعتقدون أنهم على حق، فهل نفيق قبل الأوان وندرك أن الحق متعدد، أما الخراب فليس له سوى طريق واحد يُشترط على كل من يسير فيه أن يعتقد أنه على حق؟! قبل اندلاع الحرب الأهلية فى لبنان مباشرة ظهر على الساحة الإعلامية تعبير «اليد الثالثة» للإشارة إلى حوادث غامضة كانت سبباً فى تأجيج نيران الفتنة، وعندما وقعت حوادث فتنة طائفية غامضة الملابسات فى ثمانينيات القرن الماضى، استخدم أكثر من كاتب ذلك التعبير اللبنانى فى محاولة للفت الأنظار إلى خطورة ما يحدث، لعل الدولة تنتبه وتفيق من غفلتها. والآن وبعد كل ما جرى فى «مجارى» الفتنة الطائفية لسنين طويلة قد يبدو لك أنه من العبث أن نشير إلى «يد ثالثة»، فأيدينا كمسلمين ومسيحيين تقوم بالواجب وزيادة من أجل تخريب الوطن. ومع ذلك سأظل مؤمنا بنظرية المؤامرة، ليس عن هوس عقلى أو خلل نفسى، بل عن إدراك ويقين تسنده المعلومات والوثائق بأن عدونا الإسرائيلى سيكون مختلاً عقلياً لو توقف عن التآمر ضدنا، وهو ليس كذلك أبداً، فهو عدو عاقل يدرك أن قوته لن تستمر إلا إذا ظللنا ضعفاء وغارقين فى التطرف والفتنة والتعصب، يعرف ذلك جيداً لأنه هو ذاته يعانى داخلياً من الهوس الدينى والتطرف العقائدى والتوترات الإثنية، لكنه استطاع أن يخفف من آثار ذلك على مصيره ومستقبله بالديمقراطية الحقيقية لا الشكلية والتقدم العلمى والتكنولوجيا، والاثنان كفلا له البقاء رغم كونه كياناً استيطانياً غاصباً يفتقر إلى الشرعية اللازمة لإبقاء دولة على قيد الحياة، بينما نحن بكل تاريخنا وحضارتنا وتراثنا مهددون بالفناء فقط فى اعتقادى لأننا شغّلنا الديمقراطية فى خدمة بيوت الاستبداد، ووظّفنا العلم بعقد عمل دائم لدى الجهلة. لكن ولكى لا يصبح كلامنا عَمّالا على بَطّال، دعونا فى الغد بإذن الله نتحدث بالوثائق عن دور اليد الثالثة فى ملف الفتنة الطائفية فى بلادنا، هذا إذا عشنا وكان لنا نشر. [email protected]