بعد التظاهرة الطلابية البريطانية، التى اقتحم فيها بعض الطلاب مقر حزب المحافظين، احتجاجا على زيادة الأجور الدراسية واشتباكهم مع رجال الأمن، وردّ الحكومة الذى ألقى بمهمة حسم الأمر على البرلمان بصفته منتخبا من الشعب ومعبرّا عن مطالبه، كان لنا جلسة وبعض الأصدقاء فى أمسية لقاء بعد غياب دار فيه الحوار حول تلك التظاهرة، وما إن كان فعلا يستطيع برلمان قوى محاسبة حكومة ويكون وسيطا فعّالا بينها وبين الشعب دون اللجوء إلى التظاهر وأسلوب العنف، فذلك وكما نعرف هو الأساس والقاعدة، التى يقوم عليها انتخاب المرشحين. ولكن! هل يضحّى نائب بما سكبه من ملايين تحت أقدام حملته الانتخابية وما سيعود عليه من مصلحة شخصية إذا ما فاز، فى سبيل إيصال صوت مواطن أو المطالبة بحقوق هو أولى أن يطالب بها لنفسه وخاصته؟ لم ينف ذلك بالطبع وجود أقلية من دعاة الديمقراطية من ذوى الفكر الحر والمشاريع الوطنية. ولكن تبقى المنفعة هى المهيمنة على تلك المجالس، مما يدفع المواطن إلى التظاهر لإيصال صوته للمجلس والحكومة معا.. خاصة فى مجتمعاتنا، التى تحتاج تطهير البنية السياسية والأيديولوجية ممّا يعشش فيها من جهل وتخبط انتخابى، وتأرجح بين ديمقراطية ظاهر وديكتاتورية باطن، والبدء بتثقيف المواطن كى يعى دوره ويضع نصب عينيه مصلحة الوطن ولا يدلى بصوته لمن لا يستحق، مقابل (هبة) رخيصة تقضى على طموحات وآمال وطن وأجيال. إذن، البرلمان القوى هو الذى يخرج من عباءة المصلحة والمساومات الشخصية مع الحكومة لضمان تحقيق ما يطالب به من حقوق مواطنين. ولا وجود بالطبع لهذه المثالية حتّى فى الدول، التى نحسدها على ما ترفل به من ديمقراطية أثبتت الأحداث زيفها. فهذه أمريكا، مصدّرة الديمقراطية، وقد بدأت بوضع خطوطها الحمراء وبشدّة أمام التظاهرات، التى تؤثر على مصالح الرأسماليين والاقتصاد، من خلال رفضها الأساليب العدوانية وفضح ما نتج عنها من دمار وإراقة دماء، خاصة فى العراق تنفيذا لسياستها (الميكيافيلية). وتلك السويد وما حدث فيها من إطلاق نار على المتظاهرين ضد أمريكا والعولمة وبريطانيا وقمعها إضراب عمال المناجم عام (1984) و(جنوة) وتصديها بالصواريخ للتظاهرة الرافضة سياسة بنك النقد الدولى ومنظمة التجارة العالمية.. لتنقلب كل تلك النعومة الديمقراطية إلى وحش حين تصل شظايا الرفض إلى الاقتصاد وتهدد مصالح النخبة، ولسنا أقلّ منهم فى ذلك إن لم نكن الأسوأ. وهذا لا يعنى أن تتوقف المظاهرات وتُخرس الأصوات ببذر (ثقافة الخوف)، فالتظاهرات ورقة رابحة بيد الحكومات كدليل ديمقراطى، كما أنها ظاهرة صحية وسِمَة حضارية وحقّ من حقوق المواطنة فى التعبير عن الرأى والمطالبة بالحقوق وتوصيل ذلك إلى العالم كله من خلال وسائل الإعلام، لو التزمت بالأسلوب السلمى. وليس تفريغ طاقة بالعنف والصراخ فقط دون تحقيق هدف إيجابى. وأعجب أننا وبعد كل هذا الحوار مع الأصدقاء نفاجأ بإصرار أحدهم على أن الديمقراطية الحقيقية هى رشق المسؤولين ب(الطماطم والبيض) كما فى بعض الدول دون أن يتعرض لهم الأمن.. ناسيا أنّ ذلك ولّى مع الزمن الجميل, وأكوام طماطم تنادى من يشتريها ولو (ببلاش).. فكيف لمعارض أن يرشق اليوم مسؤولاً ولو بحبة طماطم، وهو وأبناؤه أولى بتناولها؟! وربما تناسى أيضا أن الرشق أصبح الآن بما هو أرخص من الطماطم ب(مطاوى وسنج ورصاص)، فالنفوس تحجرت، والطماطم أرق من أن تجرح وتوجع لارتوائها من ماء الوطن وترعرعها فى تربته، بينما الأسلحة مصنّعة فى مصانع شرّ من أجل شرّ، تتكدس بلا ترخيص ولا رقابة فى توابيت ضمير وقبور ولاء. وتتفجر دما فى تظاهرة عنف بين بعضنا البعض دونما خجل، لا ضد غازٍ ومحتل، وحماية أرض وعِرْض.