أحياناً أتفلسف، وأقول لنفسى إن رحلة حياتى على الكوكب الأرضى تشبه مشوارى اليومى فى الميكروباص. المكان الذى أقصده بعيد جدا ولذلك أضطر إلى أن أبدأ رحلتى مبكرا مع الخيط الأول للفجر، مستمتعا بنسمات الصباح الرقيقة، شاعرا بأن الزمن ملكى واليوم طويل جدا، ممتد بلا نهاية. فى تلك اللحظات البديعة من اليوم أشعر بالنشاط المؤقت وكأننى طفل لا يكف عن اللهو والتنطيط. أتعامل مع زملاء الميكروباص بأريحية البدايات. حتى أصواتنا تخرج همسا وكأننا نخشى أن نخدش رهافة الصمت الناعم فى المدينة النائمة. بعد قليل ينسكب ضوء الصباح البهيج من كل النوافذ فيغمر الميكروباص. تستيقظ الحياة تدريجيا فى شوارع المدينة، وتنفتح شبابيك المنازل فى إيقاع تدريجى منتظم وكأنها أصابع رشيقة تعزف على البيانو. تخرج الوجوه التى استيقظت لتوها إلى الشرفة لتستقبل الصباح الجديد ناظرة إلى الأفق، تطلب الستر من رب كريم. أعرف الذى يدور خلف الشبابيك رغم أنى لا أراه. عناية الأمهات بالأطفال الصغار. طعام الإفطار والاستعدادات النهائية تمهيدا للخروج. بعدها يبدأ تدفق أطفال المدارس بزيهم الموحّد ووجوههم النضرة رغم آثار النوم. وما هى إلا لحظات ويغلب نشاط الطفولة كسلهم المؤقت فيلعبون ويمرحون فى الطريق. تتلاحق أمواج فتيات المدارس الأكبر سنا، تفيض أجسادهن بأنوثة مبكرة وفى وجوههن عيون لامعة متلهفة على نصيبهن فى الحياة، والعش الذى ستملكه ذات يوم والحبيب. تحتضن البنات حقائبهن فى أمومة رمزية، يملؤنى المشهد ببهجة حقيقية وإيمان بالقواعد الخفية التى تنظم الحياة. يتدفق الرجال الباحثون عن الرزق، وعلى وجوههم ملامح متضرعة، وفى الخلفية أستمع إلى ألحان سيد درويش الخالدة التى تعبر عن إيمان الحرفيين المطلق بحتمية الرزق، وأن الذى يرزق الدودة فى الحجر سيرزقهم لأنه رب كريم. ترتفع الشمس فى السماء أكثر، يزدحم الشارع أكثر، تختلط الملامح والوجوه. تذهب بشاشة الصباح، وتحتدم معركة الحياة. الحركة تصبح أكثر عنفا، والملامح أكثر حدة. مع تأهب كامن وعنف مكبوت، تصبح أريحية الصباح ذكرى غابرة، ويعود ميراث الغابة المنطوى على غالب ومغلوب. وألاحظ فى الطريق التفاوت الكائن فى الحظوظ، أنا مثلا أركب الميكروباص. هناك من يركب سيارة فاخرة أو متواضعة، حافلة، درّاجة أو حتى يمشى على الأقدام. وهناك من يغادر الشارع قبل نهاية الرحلة. لكن المدهش أنه رغم هذا التفاوت فإن هناك نوعاً ما من المساواة. زحام الطريق يجبر الجميع على الوصول فى وقت واحد تقريبا مهما اختلفت فخامة المركبة وحظوظ السائرين. قبيل الغروب، تهدأ الحركة شيئا ما، يبدو نوع من التسليم القدرى قبيل سقوط الظلام. وفجأة يلوح المكان الذى كنت أقصده منذ البداية، ساكنا، مريحا، أبديا، فأعرف أن رحلتى قد انتهت. وقتها يخفت الصوت ويتلاشى الصراع، وكأننا أدركنا بالدليل العملى أن الأمر/ الطريق/ الحياة لم يكن فى الحقيقة يستحق كل هذا النضال.