المسألة أكبر بكثير من جمال البنا أو أى شخص آخر. إنها المساحة التى يكون الاختلاف فيها صوابا وخطأ (أ)، وليس حقا وضلالاً (ب)، أو - والعياذ بالله - إيماناً وكفراً(ج). بعض المخلصين يتصورون أنه كلما ضاقت المساحة (أ) زادت احتمالات السلامة، وبالتالى فهم - بسبب نياتهم الحسنة ورغبتهم فى الوصول بالناس إلى بر الأمان - يضيّقون المساحة التى يمكن الاختلاف فيها(أ) ويحملون الناس على الحق الذى يعتقدونه صوابا. لذلك تجد آراءهم قاطعة، فالصوفية ضلال، والتشيع كفر، والعقل هلاك، والحديث عما شجر بين الصحابة محظور، وإعفاء اللحية واجب، وتقصير الثوب ضرورة والنقاب فريضة، ورفض حديث واحد صحيح السند خروج عن الملة، وغيرها من الأمثلة التى يعتبرها المعتدلون من علمائهم تقع فى المساحة (ب) أى الحق والضلال، ويعتبرها متشددوهم تقع فى المساحة (ج)، أى الإيمان والكفر. ومرت الأيام ووجدنا نقداً لهذه الأفكار من علماء كبار من أعلام الأمة لا يمكن وضعهم فى المساحتين (ب) و(ج). فها هو القرضاوى يضع الصوفية فى ميزان الشرع فيعترض على خطئهم ويثمّن صوابهم، بل وينصح السلفيين بالاستفادة منهم. وها هو محمد أبو زهرة يعتبر الخلاف بين الجعفرية وغيرهم خلافاً فى الرأى والنظر، لا فى العقيدة والإيمان ويقول بصريح العبارة: «اعتقادهم فى الإمامة - وإن كان خطأ - ليس مخرجا لهم من الملة». وها هو أبوالأعلى المودودى فى كتابه «الخلافة والملك» ينتقد سياسات سيدنا عثمان بن عفان، رضى الله عنه، بمنتهى الحب والاحترام، وينصح أبو زهرة فى كتابه «الإمام الصادق» علماء السنة بالاعتراف، بشجاعة، بأن معاوية كان باغياً. وها هو الغزالى يعتبر ارتداء النقاب فى أوروبا قضاء مبرماً على الدعوة الإسلامية هناك، وها هو القرضاوى يرفض حديث البخارى «لولا بنو إسرائيل لم يخبث الطعام ولم يخنز اللحم ولولا حواء لم تخن أنثى زوجها»، معتبراً أنه يخالف القرآن والقوانين الطبيعية. وها هو الغزالى يرفض أحاديث صحيحة السند مذكورة فى كتب الصحاح لتعارضها مع القرآن أو ما هو أوثق منها من السنة المطهرة، مقتديا فى ذلك بالسيدة عائشة والإمام مالك والأحناف. وهذه الأمثلة السابق ذكرها ليست بالضرورة الصواب الوحيد، فربما كان اجتهادهم فى هذه المسائل خطأ، وربما كان صواباً، حسب زاوية الرؤية واختلاف الأحوال. المهم أنها ليست - كما جعلونا نعتقد - فى المنطقة الخطرة بين (ب) و(ج). والله لم يخلقنا على عقل واحد، وتضييق المساحة (أ) لا يناسب من تربى عقله على التفكير النقدى، أو أتيح له الاتصال بالغرب، فيجدون أنفسهم بين أمرين كليهما مر: إما أن تضيق صدورهم بالدين كله، أو يتجنبون التفكير. والخلاصة.. أننى لا أحرم نفسى من الاستفادة بآراء البنا القيّمة طالما تقع فى المساحة (أ)، دون أن أكون ملزما بقبول ما يخالف إجماع الأمة «كعدم فرضية الحجاب أو جواز التدخين فى نهار رمضان».