أسئلة كثيرة عجز عن إجابتها الأستاذ جمعة: لماذا يصمت الناس على الظلم؟ ويسكتون عن الإهانة؟. وهل هناك إهانة أكبر من أن تقضى عمد. أيمن الجندىرك فى تعب متصل. تستيقظ على لون الماء المعكر وطعم الشاى الردىء ثم تنحشر كسردينة بائسة فى حافلة مزدحمة، تتعرض للإهانات أثناء عمل لا تتقاضى عنه أجرا كافيا. تعود لتعبس زوجتك فى وجهك، يلومك أولادك المراهقون لأنك جئت بهم إلى هذا العالم القاسى، تمرض وتقترض، تناور وتنافق، وإذا خطبت ابنتك ركبك الهم بدلا من الفرح. وبعد هذا كله، ورغم هذا كله، تجدهم سعداء!. سعداء! كيف؟، سعداء! لماذا؟ أستاذ جمعة مشهود له بالثقافة وهى بضاعة راكدة فى تلك المصلحة الحكومية الكئيبة التى يعمل بها، ولا تجلب له سوى الاستخفاف والتندر من زملائه الذين تنحصر اهتماماتهم فى لقمة العيش اليابسة ومحاولة غمسها فى الحساء المر بأى طريقة ممكنة. لم يظفر بصديق منهم رغم عمره الخمسينى الذى انقضى دون زواج. ربما عوضته ابتسام التى تعمل معه فى نفس المصلحة- بحنانها الحقيقى الذى يذكره بتلك الأيام الخوالى حينما كان طفلا نفيسا مدللا، على الأقل فى عين والدته. لكن هذا الزمن قد ولى وولت معه أيامه كلها، ساعات يُخيّل للأستاذ جمعة أن وفاة والده المبكرة هى سبب أقداره المعاكسة، ولكنه فى قرارة نفسه يعرف أن أباه حيا كان أعجز منه ميتا أمام عربة الأقدار بعجلاتها الثقيلة الزاحفة التى تسحق كل من لم تسعده حظوظه بركوبها فهى لا تتسع إلا لأصحاب السلطة والنفوذ. أما الفقراء فمصيرهم التحول إلى إسفلت بشرى يمهدون به طريق العربة الظافرة. هذا الصباح كان استثنائيا بسبب عودة ابتسام من عطلة الزفاف السريعة. الكل كان سعيدا حينما عثرت البنت على عريس بمعجزة، وكان أشدهم فرحا هو الأستاذ جمعة الذى يعتبرها ابنته. لا أحد يدرى بأية معجزة تزوجت تلك الفتاة العبيطة الطيبة بقامتها الطويلة كعمود النور الذى كان مع نحولها الواضح مدار القفشات فى المصلحة، لكنها لم تكن تغضب من مزاحهم. فقط يحمر أنفها وتشاركهم الضحك والتريقة. بمعجزة ما راقت لأحدهم بوجهها الأبيض الشاحب، صحيح أن الكل لاحظ فى خبث أنه لا يكاد يصل لمستوى كتفيها ولكنه كان يبدو مسيطرا وواثقا من نفسه، بينما انحنت البنت العبيطة فى محاولة لتبدو أقصر. عادت ابتسام من إجازة الزفاف ومعها الكثير من الصور التى تخاطفتها الموظفات وبدأت ضجة أزعجت الأستاذ جمعة كثيرا الذى تعكر مزاجه من هذا المرح السائد. تطلع حوله فى دهشة، سعداء على الرغم من ملابسهم الرخيصة وأحذيتهم القديمة والديدان التى تعمر بطونهم. واقتربت منه مدام سعدية وهى سيدة مُستفزة الأعصاب باستمرار وتصرخ دون مناسبة، وبالطبع مقياس وزنها بالأطنان. قالت فى انفعال: انظر إلى جمال غرفة النوم. كان الجو بهيجا ولا ريب. ولكنه برغم حبه للفتاة الطيبة ظل على كآبته ودهشته من تلك العواطف الجامحة التى لا تناسب الصباح، إنه لا يدرى علام البهجة! الأمر ببساطة أن فتاة حمقاء ظفرت- بمعجزة- بشاب أشد حمقا ولكن ما مصير ذلك كله؟ لهاث وراء لقمة العيش. قال فى ثورة مفاجئة: ما هذا الجنون؟ ما سر سعادتكم؟، تأملوا الجدران المتسخة وهذا السقف الذى سيهبط يوما على أعناقكم،انظروا لمكاتبكم القذرة المتلاصقة، واستنشقوا الهواء الفاسد. وانعموا برائحة دورات المياه. انظروا إلى أحذيتكم. وتذكروا أن هناك من يدفع راتبكم فى شهر ثمنا لحذائه. سعداء! كيف؟، سعداء! لماذا؟ ساد صمت مفاجئ. لم يفهم أحد سر الزوبعة المفاجئة لذلك الرجل الوقور الصامت، ابتسام وحدها سارت صوب الرجل فى حذر، واحمر أنفها وهى تقول له فى لطف: - ما الذى ضايقك يا أستاذ جمعة؟ انتزع الصور الفوتوغرافية من يديها فى عنف. - هذا ما أغضبنى، هذه الصورة البلهاء، تقفين بجوار غرفة النوم الرخيصة التافهة وكأنها عرش بلقيس. يا عالم افهموا مرة، أغضبوا مرة، ولو على سبيل التغيير. أمسك بصورة أخرى، وقد تهدج صوته من فرط الغضب، إن العربة قادمة، وحده يراها، لكن الحمقى ينظرون للصور المخادعة. - وهذه أيضا (لوّح بالصورة الأخرى فى شبه لوثة) يا للسخافة والجنون، إنها تقف بجوار دورة المياه وهى تضحك فى زهو، صحيح أنها لحظة تاريخية، أين الأمم المتحدة؟ أين هيئة الأمم؟ تضرج وجه ابتسام كله ولكنها لم تعد خائفة، انسحبت منها مشاعر الرهبة لتفسح مكانا لشعور فياض بالشفقة. تدفقت مشاعر الأمومة صوب الرجل الذى يوشك أن يغدو فى عمر أبيها، لقد فهمت سر اعتلال مزاجه: إنه بالتأكيد جائع. قالت فى حنان الأمهات: يا عينى يا أستاذ جمعة. لونك مخطوف، أكيد لم تفطر هذا الصباح، ويمكن كمان دخنت سيجارة على الريق. لا جدوى، هكذا خاطب نفسه فى استسلام، إنها لم تفهم أن ثورته المفاجئة كانت فى حقيقة الأمر إشفاقا عليها وعلى الملايين من أمثالها من حياه الفاقة التى لا يستحقونها، على أن أسوأ ما فى الأمر أنهم لا يشعرون بذلك، إنهم سعداء!. دفن وجهه بين كفيه بينما ابتسام تطلب من عم سيد الفراش شراء ساندويتشين بيض بالبسطرمة للأستاذ جمعة، لأنه - يا عينى- على لحم بطنه. هز رأسه فى يأس. لقد أخطأ عندما أفصح عن أفكاره، تصورت الحمقاء أن غضبه المقدس سوف تخمده لقيمات البيض والبسطرمة، وكأن هذا الساندويتش اللعين سوف يحميه من العربة القادمة. صدق من قال: مفيش فايدة! وما لبث عم سيد أن عاد حاملا لفافة ساخنة تفوح منها رائحة شهية. لكنه كان قد اتخذ قرارا مسبقا: يستحيل أن يأكله. صحيح أنه يحب ابتسام ولم يرفض لها طلبا، صحيح أنه جائع فعلا ورائحة البيض بالبسطرمة شهية جدا. صحيح أن ابتسام مازالت تحلف وتدفع اللقمة فى فمه وهو كطفل كبير يزم شفتيه فى إصرار. مرارا رفض الطعام حتى جاءت تلك اللحظة التى بدأ يستشعر فيها القلق أن تكف الفتاة عن المحاولة ويأكل طعامه أحد الأوغاد. وقتها فقط أمسك بالساندويتش بيد باردة مترددة وراح يمضغه متظاهرا بالاستسلام. مذاقه جميل فعلا، لوهلة نسى العربة الزاحفة أو أراد أن ينساها الآن. انتهى من طعامه الشهى شاعرا بالعرفان للحظة شبع لذيذ وكوب شاى مُنتظر يحبس به مع سيجارة يتوق إليها. ثم لم يعد ينكر بينه وبين نفسه أنه على مقربة خطوات من إجابة سؤاله المحير: سعداء! كيف؟، سعداء! لماذا؟.