قلتها بمجرد أن سمعت الخبر: «البقاء لله». قلتها وكأننى أول من قالها، وأول من سمعها. بمجرد أن أغلقت الاتصال راحت الكلمة تتردد فى وعيى: «البقاء لله». تُولد الشمس لتنشر النور والبهجة، تبعث الحياة فى الكواكب، تشرق وتغرب ملايين المرات، ثم تتكور حول نفسها وتموت، ويبقى الله. يُولد ألف نجم ويموت ألف نجم، وتحترق الشهب، ثم يفنى الكون كله ويبقى الله. يسقط المطر، تزدهر الأرض، تلبس حلتها الخضراء، ثم يموت الزرع، وتموت الأرض، ويبقى الله. يخرج من البيض ألف عصفور، يطير فى السماء ألف عصفور، ثم يموت الألف عصفور، ويبقى الله. يُولد الإنسان فخورا بنفسه، مُغترّا بحوله، مُؤثرا فيمن حوله، يرسم الأحلام، يحشد الأوهام، يرتب الصفقات، ثم يسخر الموت منه، فيموت الإنسان. تموت أحزانه وفرحته، تموت أحلامه وأوهامه، تموت ذكرياته، أصدقاؤه، أحبابه وأعداؤه، رفاق فصله، البنات اللاتى أحبهن، والبنات اللاتى أحببنه، يهيمن لون الكفن الأبيض، وملابس الحداد السوداء. ويبقى الله أبدا، دائما سرمدا، منفردا بعزته، متعاليا بعظمته، مستغنيا بذاته عما سواه. ■ ■ ■ مات ابن خالى أمس، مات «محمد خالد نصار»، تاركا طفلا غافلا وزوجة ملتاعة. مات فى غربته، ليعود جثمانا إلى وطنه. ذهب الشاب الوديع، الدمث الودود، دون مرض سابق، أو حادثة سير. مات فقط لأنه يموت! مات لأنه - مثلنا جميعا - مقدور عليه الموت. مكتوب على جبينه بخط خفى: ميت بن ميت، أبو الأموات، يسعى بين الأموات ميتا على قدمين. مات ليُذكّرنا بما نود أن ننساه، بتفاهة أحلامنا، بحقارة أهدافنا، بعبث دنيانا، وبأننا سنقف فى خاتمة المطاف بين يدى خالقنا، فى لحظة مباغتة سنجد أنفسنا هناك، على الضفة الأخرى، مُطالبين بتقديم كشف الحساب عن أفعالنا، دون أن تكون هناك أدنى فرصة فى إعادة تصحيح كراسة الإجابة. مات الشاب الطيب قبلنا، رغم أنه أصغرنا جميعا، لأن الموت ذوّاقة يعرف كيف يختار، يبدأ بالأرواح الطيبة، يضحك فى وجوههم، ينثر الياسمين فى دروبهم، قاعدة توشك أن تكون مطردة. هكذا اختطف الموت أخى «ياسر» من وسطنا، الطبيب الذى وهب نفسه للمرضى، الفارس المقبل من زمان الرحمة. ■ ■ ■ بمجرد أن سمعت الخبر جرى ذهنى على الفور لوالديه، فانتصب شعرى من فرط الفزع. ارتعت وأنا أتصور وقع الخبر على أمه، الرقيقة المرهفة، الضعيفة المنهكة، العامرة بالحب، كيف سيقوى قلب الأم على احتمال الخبر؟! وسقط قلبى فى قدمى فزعا، وأنا أتذكر خالى، بعمره السبعينى، ووجهه الأبيض، وثوبه الأبيض، ولحيته البيضاء. خالى الذى كابد الحياة وكابدته، وامتحنها وامتحنته، وأتعبها وأتعبته، كيف سيصمد للزلزال القادم بغتة؟، دون أى تمهيد، بعد أن رتب حياته على شيخوخة هادئة. ينعم فيها بمحبة أولاده، ومداعبة أحفاده، وتأمل المدى الأخضر، وقراءة الجريدة على ضوء الشمس. اصبر يا خال، اصبرى يا زوجة خالى، فإن موعدكما الجنّة.