لايزال الصديق د. عبدالمنعم سعيد مُصراً على استفزاز قُرْاء الأهرام بمقالاته التى تتناول الشأن الداخلى بتحيز واضح لحزبه.. ولست أدرى لماذا يُصر على ذلك فى حين أعتقد أنه كان عليه أن ينأى عن ذلك بالكتابة عن الموضوعات العالمية والأفكار السياسية والاقتصادية الحديثة باعتباره باحثاً سياسياً نابهاً وذا قدرات عالية. ففى مقال له منذ حوالى ثلاثة أسابيع اقترب الدكتور من إحدى مُعضلات الحياة السياسية المصرية فى العقود الأخيرة وهى تداخل السلطات الثلاث فى الدولة بما يُخِل تماما بمبدأ الفصل بين السُلطات الذى ارتضته البشرية كأحد أسس الدولة الحديثة، وهو بلا شك عيبٌ خطير ومُهين للنظام الحاكم ، ونحن جميعاً نتمنى التصدى له، والأمثلة فى هذا المجال من الواقع المصرى المُعاصر لا تُعد ولا تُحصى، إلا أن سيادته عندما اختار أمثلة لذلك التداخل الممجوج، لم تجد عليه قريحته إلا بمثالين: الأول هو حُكم المحكمة الإدارية العليا الذى يُلزم السلطة التنفيذية بوضع حد أدنى عادل للأجور يتناسب مع حالة التضخم والغلاء التى يكتوى بنارها الشعب المصرى كله الآن، عدا الفئة القليلة التى ينتمى إليها الآن د. سعيد.. والمثال الثانى هو حُكم آخر شجاع بشأن مشروعية وصلاحية عقود توريد الغاز لإسرائيل بسعر بخس.. هذان المثلان هما ما أورده الدكتور العزيز كمثال لتدخل السُلطة القضائية فيما لا يعنيها من أمور السلطة التنفيذية، فما للقضاء والأجور، وماله وتصدير الغاز للأصدقاء الإسرائيليين بالسعر الذى تراه الحكومة!! وهكذا أراد د. سعيد بإصرار غريب أن يوضح لعموم الشعب المصرى أين يقف سيادته وباسم من يكتب! يقودنا ذلك إلى مقال أخير له بأهرام 18-10 تحت عنوان «نظرة أخرى على هامش السياسة المصرية» يزف فيه إلى الشعب المصرى، خاصة الشباب الغاضب والحالم منهم، بُشراه التى يفتخر بأنه توقعها منذ زمن، لأنه يعلم ما لا نعلم من خفايا الأمور، وأنه على أساس ذلك يكتب ويبرر.. وبُشراه تلك التى يظنها «نهاية التاريخ» بالنسبة للحِراك السياسى المصرى، ويريد أن يصدم بها الراغبين فى التغيير والآملين فى أن يرى الشعب المصرى البائس يوماً يعيشون فيه فى كنف دولة ديمقراطية حرة يسود فيها العدل والمساواة، لخصها ما جاء فى المقال بنص كلماته: «انتهى الأمر على أى حال كما ينبغى له أن ينتهى فى دولة مستقرة، حيث تسود الزوابع والفقاعات والأصوات الهائجة والشعارات الرنانة، ثم بعد ذلك تعود الحال إلى ما كانت عليه من أصول لها جذور وأقدار معروفة، وبعد الضجيج الذى جرى فى طريق المقاطعة، انتهى الأمر إلى المواجهة الانتخابية بين القوى الثلاث المُشاركة فعلاً فى السياسة المصرية، الحزب الوطنى الديمقراطى، وأحزاب الوفد والتجمع والناصرى، وجماعة الإخوان المحظورة كجماعة والمشروعة كأفراد، وكأن شيئاً لم يحدث طوال خمس سنوات»! كلام يصلح تماماً وأرشحه لأن يكون ديباجة بيان وزارة الداخلية الذى سيصدر قريباً بشأن الدعوة للانتخابات البرلمانية القادمة.. بُشرى جاء بها د. سعيد على طريقة «عواجيز الوطن» وليس «الفرح»، ليؤدى دوراً مهماً لحزبه وحكومته وهو تثبيط هِمم الشباب ودفع الملايين منهم إلى أتون الإحباط واليأس من محاولة تغيير الواقع المُزرى والوجوه التقليدية والشخصيات الفاسدة وسياسات المصالح. الأعجب والأغرب أنه يتحدث عن حالة المشهد السياسى المصرى فى السنوات الأخيرة والمُستمر حتى اليوم بأنه تجربة وانتهت، ولذلك فقد جلس سيادته وقد وضع الساق على الساق، وأخذ يتأمل ويستخلص الدروس مما حدث، ليُعلمنا إياها درساً بعد درس.. فلا تجد مما كتبه المفكر الكبير إلا ما يُذكرك بدور فصيل أمن الدولة الذى يتولى مُهمة إذكاء الخلافات وتضخيمها بين القوى الوطنية الشجاعة المُخلصة ومحاولة تفجيرها من الداخل! شتان ما بين ذلك الموقف للدكتور سعيد وبين موقف أستاذ العلوم السياسية الوطنى البارز د. حسن نافعة الذى اختار أن يكون ضمن تيار التغيير والأمل، الذى كتب بصحيفة «المصرى اليوم» فى اليوم السابق لما كتبه د. سعيد بالأهرام، مقالاً رائعاً تشعر بين سطوره بالإخلاص للوطن والاستقامة فى الفكر والأمانة فى العرض تحت عنوان «ومازال حلم التغيير حياً والجمعية لم تمت»، وكأنه – وياللعجب – كان لديه إحساس خفى بما سيكتبه «فيلسوف النظام» فى اليوم التالى.. فقد أكد فى بداية مقاله أن الهدف الحقيقى مما كتبه من «مراجعات» والتى ظنها د. سعيد نهاية حالة الحِراك السياسى– إنما هو بنص كلماته «تقديم مُراجعة نقدية لمسيرة جولة من جولات حِراك سياسى يتدافع فى شكل موجات من المد والجزر، لكنه أبداً لم ولن يتوقف بإذن الله قبل أن يُحقق أهدافه المنشودة كاملة، فالتغيير حلم شعب والشعوب قد تصبر وتتحمل لكنها لا تتخلى أبدا عن أحلامها». يحدثنا د. سعيد فى دروسه عن أن قادة بعض الأحزاب التى لا تعجبه، لإصرارها على عدم المُشاركة فى انتخابات بلا ضمانات، انشغلت عن تنمية أحزابها وكوادرها من خلال معارك سياسية حقيقية بالحصول على بضع دقائق تليفزيونية، وأن قيادات القوى الوطنية لا تدخل إلى صميم أقاليم الوطن، إلا وهى مُتأففة من التحرك فيه، لكى لا تسمع وتعرف وزنها الحقيقى، وأن الجماعة الوطنية اخترعت موضوع «التوريث» فى حين أنها كانت على رعب كامل من طرح القضايا الوطنية الأهم مثل علاقة الدين بالدولة ومدى تدخل الدولة فى الاقتصاد وقضايا الدعم والتعليم والعلاج! أظن أن د. سعيد، ومثله كثيرون، من قيادات حزبه قد خاضوا تجربة استقبال مكالمات هاتفية على الهواء مُباشرة من المواطنين فى لقاءات تليفزيونية متعددة، وسمعوا بآذانهم وعرفوا وزنهم ووزن حزبهم الحقيقى ونظرة الغالبية العظمى من الشعب المصرى إليهم.. وأظن أيضا أن عضو أمانة السياسات المحترم يعلم جيداً أن الأحزاب الحقيقية والتى لها برامج وطنية مدروسة وأهداف واضحة مُعلنة، غير مسموح لها بأى نشاط خارج مقارها، وأن الكلمة الأولى والأخيرة لأى نشاط سياسى أو إعلامى هى لأجهزة أمن الدولة التى تأمر وتنهى، فهى التى تصدر التوجيهات والتهديدات المُستترة، فيُلغى برنامج، وتوقف قناة، وتُشترى صحيفة ويُقصف قلم.. وأظن أن الدكتور العزيز ومن على شاكلته من أهل الإعلام الحكومى يتكلمون ويتفلسفون كثيراً هذه الأيام، فقط لأنهم يشعرون أنهم يسندون ظهورهم على أجهزة أمنية فوق الحساب والمساءلة، جبارة فى بطشها، مُتغلغلة بعملائها، وقادرة بإمكاناتها.. فى مواجهة جماعات شريفة مناضلة لا سند لها ولا ظهر إلا الشعب الأعزل الطيب الخائف على قوت يومه وتربية عياله! من هنا كان هذا الرعب والرفض المُطلق لمطالب صاحب نوبل السبعة كما تهكم عليها المُفكر الكبير، والتى قال عنها إن قوى الهامش السياسى تتصور أن بها وبتعديل الدستور فإن الحياة فى مصر سوف تتغير إلى الأبد.. نعم يا د. سعيد.. هذه المطالب تسبق أى مُناقشات حول مستقبل الدولة المصرية.. لأنها ببساطة شديدة ستنقلك أنت وحزبك إلى الهامش السياسى.. وستكون قوى التغيير الوطنية الشريفة هى «الحواشى» التى ستصوغ وتحقق حلم الدولة المصرية الحديثة التى يعيش أبناؤها يتمتعون بنسيم الحرية، ويتقدمون إلى الأمام فى ظلال العدل والمساواة وسيادة القانون.