عندما كتبت مقالاتى عن نهضة الجامعات المصرية باعتبارها قاطرة النهضة المصرية أكدت أن اهتمام الحكومة بعلاج الخلل الفادح فى رواتب أساتذة الجامعات لا يعنى تفضيل فئة من موظفى الحكومة بل يعنى استثماراً متميزاً يعود على جميع أبناء المجتمع بفرص اقتصادية تحقق الرفاهية للجميع، ذلك أننا نعيش منظومتين من الاقتصاد، الأولى هى المنظومة الحكومية، التى تشمل الجامعات الحكومية وهى منظومة وضع جدول الأجور فيها فى الستينيات عندما عينت معيداً بالجامعة فى العصر الناصرى وكان راتبى وأنا الحاصل على ممتاز مع مرتبة الشرف متساوياً مع زميلى الحاصل على درجة مقبول والذى عين عن طريق القوى العاملة فى إحدى الوظائف الكتابية الحكومية بل وأحياناً كان راتبى يقل عدة مرات عن زميلى الحاصل على مقبول وعينته هذه الهيئة فى إحدى شركات القطاع العام حيث الأرباح السنوية والمزايا المتكررة مالياً، آخر مرة التفتت فيها الدولة إلى هذا الخلل كان فى عام 1972 عندما صدر قانون جديد لتنظيم الجامعات فأصبح راتب المدرس الحاصل على الدكتوراه ستين جنيهاً وسار الحال فى هذا الإطار مقارنة بجدول التضخم وارتفاع الأسعار فأصبح الأستاذ، وهو صاحب أعلى الدرجات الوظيفية، اليوم فى عام 2010 يحصل فى الجامعة الحكومية التى تعلم 90٪ من طلاب الجامعات فى مصر على أربعة آلاف جنيه فى حين يصل أجر السائق إلى ألفين، وأجر مساعدة المنزل إلى مثل هذا المبلغ. أما المنظومة الاقتصادية الثانية التى نعيشها فهى منظومة ذات فرعين، الأول داخل الاقتصاد الحكومى حيث يحصل بعض كبار الموظفين على رواتب تتجاوز المليون جنيه فى الشهر مثل رئيس مجلس إدارة الصحيفة القومية وآخرين فى هيئات عديدة حكومية أو مملوكة اسمياً للشعب، أما الفرع الثانى فهو فرع القطاع الخاص بما فى ذلك الجامعات الخاصة حيث يصل راتب الأستاذ إلى خمسين ألف جنيه شهرياً. الحصيلة لهذا الوضع هى بالطبع انحطاط معنويات أساتذة الجامعات بكل تخصصاتهم نتيجة الإحساس بالمهانة ونتيجة استخفاف الحكومة بهم فى المعاملة المالية وبالتالى انخفاض الأداء الجامعى العام وتدهور سمعة الجامعات الحكومية فى الداخل والخارج وتخريج خريجين لا يستطيعون المنافسة فى سوق العمل ويعجزون عن الحصول على الوظائف ذات الأجر المرتفع وبالتالى يبقون فى إطار وظائف الحكومة متدنية الرواتب. عندما نقول إن على الحكومة الاهتمام بوضع كادر جديد لرواتب الأساتذة فإننا نعنى تصحيح الخلل الفادح وسد الفجوة بين منظومتى الرواتب فى الجامعات الحكومية والجامعات الخاصة وهو أمر يؤدى تلقائياً إلى نفخ روح الكرامة والإحساس بالقيمة لدى الأساتذة مما يطلق قواهم الإبداعية الكامنة والمخنوقة بسياسة الأجور الحالية، إن إطلاق هذه القوى يعنى نفخ الروح فيما يسمى بنظام جودة العمل فى الجامعات وعندها سترى قدرات الشخصية المصرية وهى تقهر عقبات عديدة كما فعلت فى حرب أكتوبر لتحقيق طموحاتها القومية فى الارتقاء بالتعليم والبحث العلمى، لست فى حاجة لأن أكرر أن هذه الروح ستنعكس على جميع أبناء الطبقات الاجتماعية الذين يلتحقون بالجامعات الحكومية بتحسين أوضاع العملية التعليمية ورفع مستوى الخريجين إلى الحد الذى يمكنهم من المنافسة فى سوق العمل والحصول على الفرص الاقتصادية المتميزة. إننى أعود إلى هذا الموضوع فى مدخل حديثى عن استراتيجية إسرائيل 2028 باعتبارها نموذجاً للتحدى الحضارى الذى يجاورنا ويواجهنا، فى إسرائيل لا يعانى أستاذ الجامعة ما نعانيه من إهمال حكومى فجدول رواتب الأساتذة والخدمات الصحية والاجتماعية والإدارية التى ينعمون بها أمور ترتقى إلى المعدلات الدولية ولهذا يظهر أسماء جامعتين إسرائيليتين كل سنة فى مصاف الجامعات الخمسمائة الأكثر تقدماً فى العالم ونرى إنجازات علمية واختراعات متعددة تخدم الاقتصاد الوطنى وتساهم فى قوة الدولة مدنياً وعسكرياً، ومع هذا فإن المجتمع المدنى فى إسرائيل يحلم بمزيد من التقدم ويحلم بتحقيق نهضة أكبر، من هنا اجتمع سبعون من رجال الأعمال والأكاديميين والمديرين ورجال الجيش المتقاعدين ورجال الصناعة وأطلقوا فكرة لوضع رؤية استراتيجية للتنمية الشاملة وصدرت الاستراتيجية تحت عنوان «إسرائيل 2028 رؤية استراتيجية اقتصادية اجتماعية»، لقد اهتم واضعو هذه الرؤية بدراسة جميع المعوقات التى تمنع تحقيق طموحهم وهو الوصول بإسرائيل فى عام 2028 إلى أن تكون إحدى الدول العشر الأكثر تقدماً فى العالم فى جميع الجوانب الاقتصادية والاجتماعية. ولقد تم البحث تحت رعاية ودعم مفوضية العلوم والتكنولوجيا الأمريكية الإسرائيلية. لم أدهش عندما وجدت أن قضية وجود منظومتين للاقتصاد تحتل اهتماماً بارزاً فى هذه الاستراتيجية بالطبع ليس فيما يتعلق بالجامعات ولكن فيما يتعلق بقطاعات التجارة والإنتاج والخدمات فى الاقتصاد، فلقد مثلت الثنائية الاقتصادية معضلة تعترض الطموح، حيث يوجد فى إسرائيل اقتصاد متطور بجوار اقتصاد تقليدى، الأول المتطور يتميز بغنى المعلومات والاعتماد على التكنولوجيا الحديثة بل وقيادة الابتكارات التكنولوجية فى مجالات عديدة وفى ذات الوقت يتمتع بإنتاجية عالية وقدرة كبيرة على الاستجابة لتحديات العولمة وعلى النمو السريع وفتح مجالات التصدير الواسعة وتحقيق عوائد ضخمة للاقتصاد الوطنى وأيضاً يتمتع بميزة الأجور العالية للعاملين فيه لكن المشكلة أنه لا يستوعب أكثر من 8٪ من حجم القوة العاملة فى إسرائيل ويساهم بنسبة 9٪ من إنتاج القطاع التجارى التشغيلى، هذا فى حين أن الاقتصاد التقليدى الذى يسيطر على قطاعى الإنتاج والخدمات يعانى من مشاكل عديدة منها الإنتاجية المنخفضة والنمو البطىء وعدم القدرة على المنافسة الدولية فى سياق العولمة، وبالتالى فإن أجور العاملين فيه متدنية. أعجبنى أن من قاموا بصياغة الاستراتيجية الإسرائيلية مهتمون بالعدالة الاجتماعية ويدركون أن الوصول إليها أمر حيوى للأمن القومى الإسرائيلى وتماسك النسيج الاجتماعى، ورغم أن كثيرين منهم أساتذة من أمريكا وأوروبا يعيشون فى معاقل الرأسمالية ويدركون قوانين نموها فإنهم يعارضون اتجاه الليبرالية الجديدة التى عززتها إدارة بوش مع المحافظين الجدد، هم يرفضون تقليص دور الدولة فى الاقتصاد كما تريد هذه الليبرالية ويطالبون بدور أكبر لها يقوم على إحداث التوازن بين مصالح الطبقات ويعمل على تقريب الفوارق بين الدخول والرواتب، ومن هنا يبنون استراتيجيتهم على هذا التوجه المهم. أرجو أن أكون قد نبهت الأذهان إلى ضرورة معالجة القصور بين منظومتى الأجور فى مصر وأهمية الالتفات إلى تصحيح أوضاع أساتذة الجامعات الحكومية لتصحيح سائر مكونات المنظومة الحكومية متدنية الأجور.