فى ظل العولمة الطاغية، تكون الكلمة الأولى والأخيرة لمن يستطيع المحافظة على قيمه وتراثه وهويته من الضياع أو الذوبان، دفاعاً عن ممتلكاته من الثوابت، التى تمثل الواقى الطبيعى لأى شعب من كل الهجمات الاستعمارية الشرسة، التى ربما يتعرض لها فى يوم من الأيام، فلا حياة لأمة بلا تراث، ولا مستقبل لها إن لم يكن لها ماض أصيل تستوعب منه العبر، وأم كلثوم التى نحتفل بمولدها هذه الأيام جزء مهم من هذا التراث، لذلك آثرت أن أذكر القارئ ببعض جوانب مضيئة من حياة هذه الشخصية التى احترمت نفسها وفنها، وأجبرت العالم كله على احترامها أملاً فى أن تكون عبرة لمن يريد أن يعتبر. تمثل أم كلثوم واحدة من أهم شخصيات القرن العشرين، حملت النغم فى قلبها وعقلها، وجعلته صلاة وعشقاً ورسالة وثورة وصوتاً معبراً عن قضايا العروبة فى العالم كله، لقبت بالأسطى، وقيثارة السماء وسومة وست الكل وسلاح عبدالناصر والسفيرة والآنسة ومطربة السحاب وكروانة مصر وأميرة الإنشاد والغناء وكوكب الشرق وسيدة الغناء العربى، كانت ولاتزال نقطة فاصلة فى تاريخ الغناء العربى لعذوبة صوتها، وروعة أدائها الغنائى المتفرد، وحضورها الطاغى، وقدرتها الفذة على التواصل مع جمهورها ساعات طويلة، تشدو فيها أرق وأجمل الكلمات والألحان، تعيد وتزيد وتجود وتغرق فى نشوة تفاعل الناس معها وتصفيقهم الحاد لكل مقطع تؤديه ببراعة وتميز، «عظمة على عظمة يا ست... تانى تانى». كان الخميس الأول من كل شهر موعداً للحفل الكلثومى، الذى كانت تنتظره الأسر والعائلات المصرية والعربية بلهفة وشوق وحرارة، يلتفون حول المذياع فى أجمل حالات التوحد، منصتين ومنتظرين الجديد مما ستشدو به كوكب الشرق، محتمين بنسمات الليل الحانية الطيبة المحملة بأجمل لحظات الصفاء من شر متاعب الحياة وقسوة همومها، وبمرور الأيام أصبح هذا الموعد الثابت لهذه الحفلات الشهرية حدثاً قومياً عربياً بامتياز، يهز مشاعر العرب ويجمعهم - لأول مرة - على حب شخص واحد «أم كلثوم» حتى إن البعض كان يردد «إن العرب لم يجتمعوا على شىء مثلما اجتمعوا حول صوت أم كلثوم» ورغم مرارة العبارة التى تعكس عجز العرب عن الالتفاف حول أى شىء آخر غير أم كلثوم فإنها تدل دلالة واضحة على مدى ما كانت تتمتع به سيدة الغناء العربى من حب وتقدير الجميع. فى عام 1953 انتخبت أم كلثوم عضواً فى جمعية «مارك توين»، التى كان تضم بين أعضائها روزفيلت الذى كان رئيس الولاياتالمتحدةالأمريكية فى الحرب العالمية الثانية، وتشيرشل رئيس الوزراء البريطانى فى نفس الحقبة، وأيزنهاور الذى تولى مقاليد الحكم فى أمريكا من 1953 إلى 1960. كتبت عنها الباحثة الفرنسية «إيزابيل صياح بوديه» مؤلفاً بعنوان «أم كلثوم كوكب الشرق» ونشرته دار روشيه عام 2006 وفى هذا الكتاب تناولت الباحثة مشوارى أم كلثوم الحياتى والفنى من خلال لمحة تاريخية عنها، معتبرة إياها واحدة من أهم مطربات القرن العشرين، وبعد أن أفاضت فى الحديث عن نشأتها وطفولتها الفقيرة بإحدى قرى الدلتا «طماى الزهايرة» قالت بالحرف الواحد: «لولا صوت أم كلثوم الذى كان هبة من الله، لما تجاوزت مطربتنا حدود قريتها وحياتها البسيطة، ولبقيت مثل بنات قريتها فقيرة مسلوبة الإرادة، وربما متزوجة من شخص فقير مثلها لا هم له سوى إنجاب الأطفال. استقبلها التونسيون بحفاوة، وسموا أكبر شوارعهم باسمها، وعندما زارت مطربتنا العظيمة مدينة فاس بالمغرب العربى منحها أهل المدينة شمعة مرصعة بالذهب الخالص تجاوز طولها متراً، تعبيراً عن فرحتهم بزيارتها وتقديراً لفنها، ويقام لها أسبوع فنى كل عام فى موريتانيا يتم خلاله استقطاب الفنانين العرب من كل مكان لإعادة غناء التراث الكلثومى والتفنن فى أدائه. نجحت أم كلثوم طيلة نصف قرن من الزمان فى أن تخطو خطواتها بثبات، وتتطور أغنياتها من فن التواشيح والطرب الخالص إلى فن التعبير، ومن حفلات أعراس الزواج إلى أرقى مسارح العالم، والخلاصة كان إبداع أم كلثوم سفيرها والمتحدث الرسمى باسم عبقريتها فى كل بقاع الأرض، فلم تتوقف رسالتها الفنية عند حدود الإمتاع أو التسلية، بل تجاوزتهما لتحلق بوجداننا فى فضاء لا نهائى من التفاعل الحى مع قضايا المجتمع وأزماته. أربعة وثلاثون عاماً مضت على رحيل كوكب الشرق عن دنيانا ولايزال صوتها صامداً مثل الأهرامات حلواً عذباً صافياً كمياه النيل ولحناً لأجمل أغنية من أغنيات زمن الفن الجميل. [email protected]