«الزمن فى غزة لا يأخذ الأطفال من الطفولة إلى الشيخوخة، لكنه يجعلهم رجالا فى أول لقاء لهم مع العدو» هكذا قال الراحل محمود درويش عن أطفال غزة.. لكنك إذا قابلتهم، إذا التقيت بهم عرفت معنى ما يقول.. وفى رحلتى إلى غزة حرصت أن التقى بهم، أن أذهب إلى مدرسة لأستمع إليهم.. لأبحث كيف غيرهم العدوان.. كيف قتل الرصاص الإسرائيلى أحلامهم وآمالهم.. وهناك وجدت ما لم أكن أتخيل.. فهم لا يبكون .. يحكون لك عن أخوتهم الذين راحوا شهداء.. ولا يبكون .. أحدهم أبوه سقط محترقا، يحكى لى الحكاية.. أخذت أنتحب بجانبه وهو صلب لا يبكى.. أطفال غزة تحجرت الدموع فى مقلاتهم أو جفت.. يتحدثون فى السياسة كأى محلل سياسى بارع.. يعرفون الفرق بين القنابل العادية والفسفورية. وإذا لعبوا يلعبون لعبة القتل والنار ( فريق من المقاومة وفريق من الإسرائيليين) وفى نهاية اللعبة دائما لابد أن يسقط الشهيد: ينطق الشهادتين ويموت.. أى طفل هذا الذى يمثل الموت فى لهوه؟! تشعرون بالخوف ليلا ؟! سألتهم. بعضهم قال: لا نحن رجال لا نخاف.. والبعض الآخر قال نعم: ومن لا يخاف إذا قصفت دارنا كل يوم ومات أهلنا أمام أعيننا؟!.. طبعا نخاف. بماذا تحلمون؟! سألتهم: قال معظمهم: أن نكون مقاومين.. مجاهدين .. أن نقاتل العدو الإسرائيلى.. «ألا يريد أحدكم أن يعمر البلد أن يكون طبيبا أو مهندسا ؟» يجيب أحدهم: كلنا نريد أن نعمر البلد بالمقاومة والجهاد!! أعيد السؤال فيظهر لى صوت حسن ضعيفا خافتا ليقول لى: أنا أريد أن أكون طيارا. أسأله: لا تريد أن تكون «مقاوم»؟ يقول: لا، لا أريد أن أموت.. ليه كل حاجة السلاح والموت.. نريد أن نعيش مثل باقى الناس.. مثل باقى الأطفال.. هم تفوقوا علينا بالعلم.. وعلينا أن نتعلم ونتفوق عليهم.. لا أريد أن أموت.. قبلته فى جبينه.. طفل العاشرة الذى لا يريد أن يموت.. لا يريد أن يلعب لعبة «الشهيد» يريد أن يعيش، أن يحلم، أن يتعلم.. (نسبة الأمية والتسرب فى القطاع والضفة ضعيفة جدا) لكن حسن طفل واحد.. نسبة كبيرة من أطفال غزة تشربوا المقاومة فى دمهم وفى أحلامهم كل ليلة.. قال لى أحد المحللين إن طفل الانتفاضة الأولى هو استشهادى الانتفاضة الثانية.. فماذا سيحدث لطفل عدوان غزة الأخير.. ماذا تنتظر منهم ؟!.. حين يرون الظلم والقهر وضمير العالم يشاهد كل ذلك.. دون أن يتحرك.. جرائم ضد الإنسانية و لا أحد يتحرك وحماس تتباهى بأن المقاومة، بخير بينما الشعب يباد. ماذا ننتظر سوى أن يرتدى أحدهم بعد سنوات حزاما ناسفا ويفجر نفسه.. فى أى موقف آخر. وكما يقول درويش أيضا: «تحيط خاصرتها بالألغام وتنفجر. لا هو موت ولا هو انتحار.. لكنه أسلوب غزة فى إعلان جدارتها بالحياة..» يعلنون فقط عن جدارتهم بالحياة.. وقادتهم يعلنون فى كل لحظة عن صراعهم على السلطة والمقاعد والدولة التى ليست بدولة. [email protected]