هل ينبغى الرهان فى إجراء التغيير أى تغيير على الشارع، أم أن النخبة هى المؤهلة للتصدى للأمر؟ للوهلة الأولى قد يبدو السؤال افتراضياً، لكن بقليل من التأمل سيكتشف المرء أنه أمام إشكالية عويصة، وبعيداً عن الخطابة دعونا نعترف بأنه لم يحدث طيلة تاريخنا المعاصر أن قاد الشارع تغييراً حقيقياً، بل ما حدث كان مجرد أعمال عنف فوضوية، تجعل أكثر المتحمسين للتغيير يراجع نفسه ألف مرة، لو خُيّر بين التعايش مع الفساد أو الفوضى العبثية، وبالتأكيد كلاهما خيار مرّ، كالمقارنة بين «الإيدز» والسرطان. من هنا نشأت فكرة دور النخبة، وكان عالم الاجتماع السياسى الإيطالى «بادتو»، أول من نبه لهذا الدور فى الدولة الحديثة، حين قال إن المجتمع الصحيّ هو القادر على تجديد النخبة، بتأهيل الصفوف الثانية والثالثة للصعود للصف الأول، فلكل إنسان عمر افتراضي، لكن يبدو أن «خصوصيتنا» تحول دون تقبل هذا المنطق، وبالتالى تأبى إقرار التداول السلمى على السلطة، كما تفعل الأمم المتحضرة. وهل تعنى هذه الخصوصية المزعومة أن يتحول الجهاز الإدارى فى الدولة لمؤسسات عائلية، يتوارثها الأبناء والأحفاد، ولو شاء القارئ لزودناه بقوائم كاملة لأسر تحكم عشرات المؤسسات، لدرجة لم يعد معها الأمر مجرد مؤسسات فاسدة، بل «فساداً مؤسسياً»، يعمل وفق «قواعد مافيوزية» لا سبيل لضبطها أو رقابتها أو تجديد دمائها، بينما هناك ملايين الموهوبين لا يجرؤون على مجرد الحلم بالانخراط فيها. بوسعنا طرح مئات التساؤلات بحجم الأكاذيب التى نتجرعها يومياً، ولعل الكارثة الحقيقية هى ذلك الإلحاح المنهجى على نشر الرؤى المتعصبة عبر وسائل الإعلام الرسمية والخاصة، ليصل فى نهاية المطاف بالبسطاء لحد الاحتقان، وقد يدفعهم للتورط بعمليات إرهابية لا مسوغ لها من الشرع أو العقل، اللهم إلا أن مرتكبيها محتقنون، فقدوا «البوصلة» التى تحدد المسارات الصحيحة التى ينبغى أن يتجهوا إليها بأحلامهم وطموحاتهم، بعد أن أصبح الوضع العام بالغ الكآبة، فلا مستقبل ولا معايير واضحة، ولا يبدو فى المدى المنظور ما يترقبه هؤلاء المأزومون، ولو حتى من باب الأمنيات المستحيلة. أحياناً، وتحت تأثير اليأس المفرط، يتصور المرء أن أثمن ما خسرناه هو «الإنسان»، فالحقيقة المرّة أن المصرى الآن لم يعد هو الذى كنا نعرفه قبل عقود، والذى كان ينشر حوله التسامح والسلوك المتحضر والانحياز العفوى لكل ما هو إنساني، دون تمييز بسبب اللون أو الجنس أو المعتقد، فكانت المدن المصرية كيانات «كوزموبوليتانية» تحتضن الأوروبى والأفريقى والآسيوي، ولا تتأفف من اليهودى ولا المسيحى ولا حتى الملحد، ولا يضيق صدرها بالمخالفين فى الرأي، بينما يبدو الحال الآن فى اتجاه مضاد تماماً، فالهوس الدينى أصبح شائعاً على نحو غير مسبوق، كما سادت بين المصريين أنماط من السلوك والتفكير لم نعرفها من قبل، تبدأ بنجومية من يطلق عليهم «الدعاة الجدد»، ولا تنتهى عند ذلك التنامى المثير للقلق فى أعداد المنتقبات وذوى الجلباب الباكستاني، الذى صار «أيقونة» لطراز جديد من المتطرفين، الذين ينبغى التهوين من خطورتهم، فقد أفرزوا بالفعل أنماطاً من العنف، كما رأينا فى تفجيرات الأزهر وسيناء، وقد تفاعل فى بلورة هذه الظاهرة الهمّ السياسى مع الهموم الاجتماعية والاقتصادية وغيرها فى بوتقة أنتجت «جيلاً جديداً»، ستظهر مدى خطورته فى المستقبل القريب. ولعل المتأمل للشارع السياسى المصرى يرصد ببساطة أن أقوى كيانين الآن هما: حزب الفساد وحزب الهوس الديني.. باعة الأرض وباعة السماء.. وكلاء الوطنية وباعة صكوك الغفران، ومن يحاول الخروج على هذين الحزبين فهو متهم فى وطنيته أو عقيدته، ليبقى القابض على عقله وضميره اليقظ، كالقابض على الجمر، فهو متهم تارة بالتأمرك، بينما من يتهمونه بذلك هم أكثر من ينام فى أحضان «العم سام»، وتارة أخرى متهم بالتجديف، فيما أمسى المنافقون والأنبياء الكذبة، هم أهل الصلاح والتقوى. * [email protected]