«لا نريد تعويضات ولا أموالاً، نريد العدالة، نريد محاكمة المسؤولين عن الجريمة». هذا ما يقوله كل الفلسطينيين فى غزة. يقولونه للصحفيين الأجانب الذين يدخلون هناك بعد ثلاثة أسابيع من المنع أثناء «العمليات»، ويقولونه لكل من يأتى إليهم، كهذه البعثة المدنية الفرنسية التى دخلت قطاع غزة مع لحظة وقف إطلاق النار، وتمكّن أعضاؤها من التجول فيه طولاً وعرضاً، مصحوبين بالصدمة الهائلة بما رأوا. يريد الفلسطينيون، الذين لم تركعهم قنابل الفوسفور وأسلحة ال«دايم» التجريبية، تعريف هذا الذى عاشوه، وصفه ونعته، كما يريدون الحصول على اعتراف قانونى بواقعهم: ليس بأنه «الصراع» الفلسطينى الإسرائيلى، ليس بأنه «الأحداث» فى غزة، ليس بأنه «الهجوم على حماس»، بل وقوع جرائم حرب وجريمة ضد الإنسانية. وقوعها «لايف» أمام أنظار العالم، بفضل تقنيات النقل المباشر. هنا يرتدى الكلام كل أهميته، وتصبح انتفاضة الضمير مسألة حيوية... للإنسانية، قبل أن تكون للفلسطينيين. فبدونها، يثبت أنه لا «مجتمع إنسانياً» ولا قيم ضابطة، ولا تقدم. يثبت أن توازن القوى العارى، التطاحن الفج، هو ما يسيّر الكون. الفلسطينيون اليوم، ومعهم أحرار العالم، هم فى الصف الأمامى من المعركة ضد سيادة شريعة الغاب، قوية الحضور ومحدّثة على الدوام تحت مسمّيات شتى، آخرها كان «صدام الحضارات» و«الحرب الدائمة والشاملة على الإرهاب». الكلام الواضح الصافى القوى يفرض نفسه اليوم كأولى المهمات، مسجلاً بهذا التطلب طبيعة اللحظة: إنها منعطف. وككل المنعطفات، فهى لا تحتمل الحياد، ولا الالتباس. أما تحويل مجرمى الحرب من المسؤولين الإسرائيليين إلى محكمة جزاء، فيصطدم بعدة صعوبات، منها التحفظ التقليدى للدول الغربية حيال أى درجة من الإدانة الواضحة لإسرائيل، والحماية من المساءلة التى نعمت بها هذه الأخيرة على الدوام. ومنها مسألة ثانية مهمة، هى النظام نفسه الضابط لقيام محاكم الجزاء والأشكال القانونية الأخرى من المساءلة الدولية، الذى يجعلها رهينة الإرادة السياسية للسلطات المهيمنة. ويعكف قانونيون موثوق بهم على تقليب الأمر من مختلف أوجهه لتجاوز هذا الانحياز، ولتخطى البناء القانونى المحكم الذى يصاحبه. والهبّة القائمة فى العالم اليوم، التى تعكسها مئات المبادرات المنطلقة فى هذا الاتجاه بسبب ما جرى فى غزة، هى علامة أخرى على طبيعة اللحظة: إنها منعطف. ما يطلبه فلسطينيوغزة ينتقل بهم من «ضحايا» إلى مقاومين. كل الجهات، مهما أوغلت فى التآمر مع إسرائيل، كلها مستعدة للاعتراف بالضحية الطيبة، ليبدأ سجال بشأن تقاسم المسؤولية عن وقوعها. أما التفجع على الثمن الباهظ المدفوع، واستغلاله للادعاء بأن خيار عدم الاستسلام غير معقول، فهو تزوير لإرادة من دفعوا ذلك الثمن، ومصادرة لكلامهم. هو قتلهم مرتين. هل غزة خارج سياق ما يحدث فى فلسطين منذ ستين عاماً بلا انقطاع؟ بالطبع لا، ولكن ربما ما جرى فيها تكثيف له، ربما كان نقطة التحوّل تلك، الشهيرة، من الكم إلى الكيف على ما يرصد العلماء فى أحوال كل الأجسام، وما يدخل فى الفلسفة الاجتماعية. لم يكفّ الفلسطينيون يوماً عن رواية مأساتهم، عن سرد تفاصيلها منذ بداياتها، عن إلالحاح على وقائعها وأحداثها. وهم بذلك يشهدون تكراراً ويحتاجون إلى إصغاء الآخرين، ليشهِّدوهم. يجمع على الملاحظة كل من مر بفلسطين، فى أى جهة منها، من الصحفيين إلى الباحثين إلى المواطنين من أعضاء البعثات المدنية. واليوم، ينتقل الفلسطينيون إلى الخلاصة: تطلّب الموقف، وتطلّب تسجيل نتيجة. ليس من المبالغة القول إن فى هذا الانتقال ما هو أخطر من الإقرار العام بالعملية السلمية، الذى عنى أكثر ما عنى توصل الوعى الفلسطينى إلى إدراك تعقيد القضية الفلسطينية وتداخلها مع معطيات خارجة عنها، وارتضاء الفلسطينيين ألا يتطابق حقهم البديهى، الجلى والبسيط، بوصفهم معتدى عليهم بالكامل ومستلَبى أرض، مع الحلول المقدمة إليهم، التى تتأسس على تسويات مع المعتدى، سوى أن المعتدى ومن معه، وبغطرسة وغرور يليقان بأصحاب منطق القوة العارية، فوتوا الفرصة... على أنفسهم، وعادت المسألة الفلسطينية مطروحة للصراع وللتفاوض المشرع على نتائج بقاء الضحية حياً، ليس جسدياً فحسب، بل روحياً: إنه مقاوم. وهذا معطى موضوعى. إلا أن ذلك يثير فيما يثير، الشروط الذاتية التى تفعل فى المعطى الموضوعى ذاك، وتجعله فاعلاً، أو تحيله هباء منثوراً وهو مصير وارد فى كل التجارب. ولعل أول الشروط وأهمها هو التخلص من الحلقة المفرغة: تلك التى ترهن الوعى كما التحركات بالضرورات الداهمة، بالحاجة إلى أقصى التحفّز والنشاط أثناء مواجهة الحدث ثم التلاشى والتشرذم وترك سائر العادات والاعتبارات السيئة المستمدة من تردى الواقع (الذى نحن أبناؤه) تعود إلى التغلب والتحكم! بل إن هذا الميل معزز اليوم بإحدى أقوى خاصيات الأيديولوجيا المهيمنة نفسها، أعنى طغيان الراهنية، اللحظية، الفوات، وسرعة الانتقال من شىء إلى آخر. إن مكافأة تضحيات أهل غزة تتطلب اليوم بناء حركة ومبادرات تمتاز بالاستمرارية والعقلانية وتطلّب التراكم، وهذا لا يمكن أن يتحقق بدون تلاقٍ، تحالف أو تآلف، كل الفاعلين. نقلاً عن صحيفة الأخبار اللبنانية