وضع الخطاب الرسمى المصرى نفسه فى مواجهة غير مبررة مع القضية الفلسطينية طوال عدوان غزة، ورفع شعار «مصر أولاً» ردا على ما فهم وكأنه غزة أولا، ونسى الجميع أن شعار «مصر أولاً» هو دعم وحماية لغزة ثانيا. ولعل أكبر جوانب الفشل على الساحة العربية هو هذا الصراع الذى جرى بين «الوطنيات العربية» والقضية الفلسطينية، فمن حرب الأردن ضد الفصائل الفلسطينية عام 1969 من أجل الدفاع عن «الأردن»، مرورا بحروب بعض الفصائل اللبنانية ضد الوجود الفلسطينى، انتهاء بقمع النظام السورى الفصائل الفلسطينية التى تعيش فى كنفه، ومنعها من الكلام إلا بما يُملى عليها من قبل الحكم فى دمشق. ومع ذلك ظلت القضية الفلسطينية محل تعاطف ودعم الغالبية العظمى من أبناء الوطن العربى، رغم أن العلاقة السياسية بين كثير من الفصائل الفلسطينية والنظم العربية ظل يحكمها كثير من الريبة وأحيانا العداء. والحقيقة أن مصر ظلت تاريخيا بعيدة عن سياسة المحاور، ولم يكن لها تنظيم أو دكان تابع لها كما فعل كثير من النظم العربية، وحتى فى عهد عبدالناصر لم تحاول مصر أن يكون لها تنظيم فلسطينى تابع للقاهرة، إنما كان لها خط سياسى نال رضا أغلب الفصائل الفلسطينية، كما أنها لم تتلوث يدها بدماء الشعب الفلسطينى كما فعلت بعض الجيوش العربية. وشكَّل هذا التاريخ فرصة ذهبية لكى تبنى مصر جسور ثقة مع كل الفصائل الفلسطينية، وأن تدعم الشعب الفلسطينى سياسياً ودبلوماسياً دون أى حواجز أو عقد تاريخية، وتعمل على دفع حماس نحو عقلنة جانب من خطابها وممارساتها، وأن تدمج فى العملية السياسية بغرض انتزاع تسوية عادلة بعد أن فشلت سلطة عباس فى تحقيقها. وعمق من هذه الفرصة كون مصر تتعامل مع الفلسطينيين فى بلادهم أو بالأحرى على أرضهم المحاصرة، وليس فى أرضنا، بما يجعلنا فى وضع «أكبر» بكثير من الدخول فى سياسة المحاور العربية، ومشكلات الفصائل التى تستضيفها نظم استبدادية، ويعطى فرصة تاريخية لكى تصبح مصر طرفاً فاعلاً وقادراً على التأثير لصالح قضية الشعب الفلسطينى، وليس حماس أو فتح. والواضح أن مصر أضاعت تاريخها الإيجابى الداعم للقضية الفلسطينية، بهذا الأداء الباهت طوال العدوان على غزة، والخطاب الردىء الذى وضع التضامن المطلوب مع الشعب الفلسطينى فى مواجهة مع مصالح مصر فى تناقض وهمى ومصطنع ليس له أى أساس فى الواقع العملى. والحقيقة أن حديث الحكم فى مصر عن أن حماس تمثل تهديداً لمصر، وأنها امتداد للنفوذ الإيرانى يعبر بامتياز عن فشل مصرى فى امتلاك خطاب سياسى له تأثير ومصداقية لدى الشارع الفلسطينى، فهل يعقل أن تنجح دولة مثل إيران تقع على بعد آلاف الأميال من قطاع غزة فى أن تكون هى الطرف الفاعل على حدودنا دون ان نتساءل عن أسباب ذلك ؟ هل يعنى ذلك أن مصر تحولت إلى «حالة أمنية» لا تمتلك أى بريق سياسى قادر على جذب المعتدلين كما فعلت تركيا، أو المتشددين كما فعلت إيران، وفشلت فيما نجح فيه الإيرانيون، أى التأثير على الفصيل الأقوى فى قطاع غزة وهو حماس، رغم أنه قطاع ملاصق لمصر ومرتبط بها تاريخيا، وعدد سكانه لا يتجاوز مليوناً ونصف المليون نسمة ( أى أحد أحياء القاهرة). والحقيقة أن فصائل التشدد الفلسطينى (حماس والجهاد) كان يمكن دمجها فى المعادلة السياسية العربية، وإخراجها من تأثير الأجندة الإيرانية، بامتلاك نموذج اعتدال مصرى له مصداقية وقادر على نقد السياسات الأمريكية، ورفض الاعتداءات الإسرائيلية فى السر كما فى العلن، بصورة تعطيه شرعية أخلاقية وسياسية تجعله قادراً على التأثير فى الساحة الفلسطينية، وممارسة الضغط على حماس إذا اقتضى الأمر لكى تفهم طبيعة توازنات القوى الدولية دون أن تتنازل عن خطها المقاوم، وأيضا مساعدة السلطة الفلسطينية على النجاح فى الضفة الغربية، بمحاربة الفساد وسوء الإدارة واحترام الديمقراطية، وهى كلها قيم غابت عن النظام السياسى المصرى، فأصبح غير قادر على التأثير الإقليمى والدولى. ولم يكتف رجال الحكومة بدورهم فى إضعاف الدور المصرى فلسطينيا وعربيا ودوليا، إنما راحوا يكيلون الاتهامات بحق الشعب الفلسطينى، وشنوا عليه حملة اتهامات وشتائم قاسية فى الوقت الذى تنهال فيه القنابل على رؤوس الأبرياء فى قطاع غزة. والمؤكد أن الحكومة المصرية غير مطالبة بالدخول فى حروب أو مغامرات عسكرية ضد إسرائيل، ولم يطلب منها أن تهمل مشكلات المصريين لصالح حل مشكلات الفلسطينيين، ولكن فشلها فى حل مشكلات المصريين جعلها تخلق تناقضاً وهمياً بين دعم القضية الفلسطينية (بالفعل لا بالقول)، وبين مشكلات مصر. وأصبح دعم فلسطين انتقاصاً من مصر، وكأن الحكومة أفرطت فى الاهتمام بالشعب المصرى حتى صارت تخشى من أن يأخذ الفلسطينيون جانباً من هذا «الحب الزائد»، وهو فى الحقيقة ما حدث عكسه، حيث لم يعان الشعب المصرى من تجاهل وفقر واستبداد مثلما يعانى حاليا، كما أن هذا التبلد الإنسانى والسياسى فى التعامل مع كوارث الشعب المصرى، كان هو نفسه الذى حكم الموقف الرسمى من العدوان الإسرائيلى على غزة. إن عدم تطبيق شعار «مصر أولاً» غيَّب شعار فلسطين ثانيا، وأن الفشل الحكومى فى مواجهة كارثة العبَّارة منذ عدة سنوات وحوادث الطرق والقطارات طوال السنوات الماضية، وأخيرا «قنابل الصخر» التى سقطت على أبرياء الدويقة، هو نفسه السبب الذى جعل تضامننا مع الشعب الفلسطينى أقل من مجتمعات أوروبية وإسلامية كثيرة. إن الجهود التى بُذلت من أجل منع وصول الدعم الطبى والإنسانى والمادى إلى الشعب الفلسطينى تحت حجج ومبررات واهية دلت على حالة من التبلد السياسى والإنسانى، هى بالضبط امتداد لنفس حالة الحكومة فى التعامل مع مصائب المصريين. بل إن نفس جنود الأمن المركزى الذين نراهم على الحدود المصرية الفلسطينية، هم أنفسهم الذين نجدهم يفصلون بين مساعدات الناس إلى ضحايا أى كارثة فى القاهرة أو عدوان فى غزة، ويصبح شعار «مصر أولاً» وهماً كبيراً، لأنه إذا كانت بالفعل أولاً لكنا تحركنا بشكل مختلف تماما فى مواجهة جرائم إسرائيل فى غزة. [email protected]