أخيراً.. فهم النظام الحاكم أن ثمة علاقة خصومة مع الشارع.. فعلى مدى أكثر من نصف قرن، فشلت الحكومات المتعاقبة فى فك شفرة «الرضا الشعبى»، لم يقترب أحد من المواطن البسيط ليعرف أسباب الانفصام التام بين الطرفين.. وبدا الأمر وكأن النظام يتحدث بلغة، والشارع يفهم لغة أخرى.. النظام يديرها بالشعارات، والرأى العام يريدها فى حياته، وجيبه، وتعليم أبنائه، ومعدة أسرته البسيطة.. وكانت المحصلة المزيد من السلبية وعدم الاكتراث، بل العداء الشخصى لكل ما تقوله وتفعله الحكومة، وفقاً لحكمة الأيام والتجارب «البلد بلدهم والمال مالهم.. خليها تخرب»! يبدو أن الحزب الوطنى أدرك هذه الإشكالية، فبعد سنوات عجاف من تطبيق سياسة الخصخصة، عبر برنامج هو الأكثر إثارة للجدل فى الشارع المصرى، أعلن الحزب عن برنامج جديد، يعتمد على طرح أسهم مجانية للمواطنين فى بعض شركات القطاع العام، وفى بيان واضح لا يحتمل اللبس، قال الحزب إن توزيع الأسهم المجانية للشركات سيتم بطريقة عادلة لمن تعدى سن 21 عاماً، سواء داخل مصر أو خارجها، وهو ما يعنى أن كل مواطن مصرى سوف يكون شريكاً ومساهماً فى المال العام، بدلاً من بيع هذه الشركات لمستثمرين مصريين وعرب وأجانب يمتلكون المليارات، ويزيدون الفجوة بين الغنى والفقير، الثراء والعدم. ولأننى أحلم بمستقبل أفضل لهذا الوطن، ولأننى لا أرتدى نظارة سوداء، وأهوى النظر إلى الكوب ب«نصفه المملوء ونصفه الفارغ»، أرى أن هذه الخطوة هى الأفضل والأكثر اقتراباً من المواطن البسيط خلال السنوات الأخيرة، فهى - فى ظنى - تكفير متأخر عن خطيئة التأميم الشامل الذى لم يفرق بين إقطاع وثروات تكونت قهراً وقسراً، وبين رؤوس أموال وطنية كانت تسهم فى تحديث مصر وبناء اقتصادها على أعمدة الإنتاج والتوظيف. لقد حان الوقت لتعود الثروة الوطنية إلى أصحابها، حتى لو توزعت بنسب بسيطة على جموع المواطنين.. ولكن النتائج دائماً تقاس بالتطبيق وليس النظرية، ولنا فى مصر الكثير من القوانين والسياسات المثالية، والتى واجهت الفشل بسبب سوء التطبيق، أو فساد الممارسة. وربما يكون مناسباً أن نعرف أن هذه السياسة تم تجريبها فى التسعينات فى دول أوروبا الشرقية، ومنها المجر وجمهورية التشيك، إذ توزعت الملكية العامة على المواطنين فى صورة أسهم مجانية، لكل مواطن حق التصرف فيها، ولكن هذه الدول وضعت الضوابط الكافية لضمان التطبيق النزيه والشفاف، فأثمرت التجربة عن إصلاح الخلل فى بنية الاقتصاد الوطنى، وحققت جزءاً من عدالة توزيع الثروة، ورسخت مبدأ العدالة الاجتماعية بين المواطنين. وإذا كان الحزب الوطنى قد اتخذ هذه الخطوة الإيجابية، فإن حالة الارتياح الشعبى التى سادت بين المواطنين تفرض على الحزب والحكومة ضمان نجاح هذه التجربة، والإفلات بها من بطش الجهاز الحكومى البيروقراطى، لذا أقترح تشكيل لجنة مستقلة من خبراء الاقتصاد تكون مهمتها وضع القواعد الحاكمة والمنظمة لتوزيع الأسهم، وتحركها فى الأسواق، والإعلان المتواصل عن كل خطوة مهما كانت صغيرة لضمان شفافية الخطوة، لاسيما أن الأمر الآن يتعلق بملكية 41 مليون مواطن لعدد من الشركات، وهو ما يعنى أن هذا النظام سوف يخضع لرقابة 41 مليون عين وعقل وضمير. غير أن هذه الخطوة وردود أفعالها فى الشارع لابد أن يفهم ويدرك الحزب الوطنى مغزاها ومعناها، وفى رأيى أن المعنى والمغزى والحكمة والرسالة واحدة، ولا تخرج عن بضع كلمات «ما أحلى العودة إلى الشعب»! [email protected]