كانت الأندلس تعتبر فى العصر الموحدى مثلما كانت فى العهد المرابطى، قطراً من أقطار الدولة الموحدية الكبرى التى تُحكم من مراكش. وكانت تنقسم إلى عدة ولايات هى: ولاية الغرب وباجة وإبرة، وبطليوس وماردة وأحوازهما، وإشبيلية وكانت أعظمها رقعة وتشتمل على قواعد شريش وشذونة وأركش وقرمونة وإستجة. وفى الوسط كانت هناك ولاية قرطبة وأحوازها، وجيان وأحوازها وتشتمل على بياسة وأبدة. وفى الجنوب كانت غرناظة وتشتمل على وادى اَش وبسطة والمنكب وألمرية وأحوازها، ومالقة وأحوازها. وفى الشرق كانت هناك بلنسية وتشتمل على قواعد قسطلونة والجزيرة وشاطبة ودانية والجزائر الشرقية. وهناك مرسية وتشتمل على لقنت وأوريولة ولورقة. فلما وقعت نكبة العقاب الكبرى وسحقت الجيوش الموحدية، وتعذر على الخلافة الموحدية أن تبعث حشودها إلى الأندلس، انهارت الجبهة الدفاعية الأندلسية، ونهضت الممالك الإسبانية لتجنى ثمار النصر وتلتهم من أشلاء الأندلس ما استطاعت، وشُغل الولاة الموحدون بما نشب حول كرسى الخلافة من نزاع، بدأ بالمغرب وتردد صداه بالأندلس التى تُركت لمصيرها بعد أن تخلت عنها الخلافة الموحدية، وأخذت تحاول بقواها المضعضعة أن تقف فى وجه السيل المتدفق عليها من جيوش الفتح الإسبانية، فكان أن فقدت الأندلس سائر قواعدها الكبرى فى أقل من ربع قرن! كان الشعور بالهوان على أشده بين الناس، وكان الإسبان يخطرون فى بعض المدن الأندلسية فى حماية فرسانهم بمقتضى المعاهدات المهينة التى وقعها الولاة مع الإسبان لضمان عروشهم. وقد عبر الشعراء عن المأساة الكبرى أبلغ تعبير. كتب الشاعر صالح بن شريف الرندى نونيته الشهيرة التى مازلنا نرددها إلى اليوم والتى تقول: «لكل شىء إذا ما تم نقصانُ.. فلا يغر بطيب العيش إنسانُ. هى الأمور كما شاهدتها دول.. من سرّه زمن ساءته أزمانُ. وهذه الدار لا تبقى على أحد.. ولا يدوم على حال لها شانُ. أين الملوك ذوو التيجان من يمنٍ.. وأين منهم أكاليل وتيجان. فاسأل بلنسية ما شان مرسية.. وأين شاطبة بل أين جيّان. وأين قرطبة دار العلوم فكم.. من عالم قد سما فيها له شان. قواعد كن أركان البلاد فما.. عسى البقاء إذا لم تبق أركان». وحدث أن كانت امرأة تسير فى السوق عندما اعترضها نذل رومى حاول هتك عرضها أمام الناس الذين لم يحرك أحد منهم ساكناً، فما كان من المرأة سوى أن استغاثت وملأ صراخها الفضاء مستجيرة بأهل المروءة أن ينجدوها، ولعلها فى موقفها هذا تمثلت صورة المرأة العربية التى استجارت بالخليفة المعتصم وأطلقت صرختها الشهيرة: وا معتصماه، والتى أخبرنا ابن الأثير أنه على أثرها ردد المعتصم قولته التاريخية: «لبيك» ثم نهض من فوره و صاح فى قصره: «النفير النفير»، وأشهد القضاة والشهود على ما وقف من الضياع، وغزا أنقرة ثم عمورية وهدمها على رأس من فيها عام 838م. ظنت المرأة أنه يمكنها أن تستغيث بالسلطان البيكيكى ما دام الناس قد تبلدوا ورفضوا مد يد المساعدة لها، واعتقدت أنه يمكنها أن تطلب منه الغوث فصاحت: وابيكيكيّاه، واإسلاماه.. وابيكيكيّاه، واإسلاماه. سمع الجنود صراخ المرأة فى الشارع فاندفعوا إليها، وقاموا وسط دهشة الناس بالقبض عليها هى وضربوها ضرباً مبرحاً، ولم يتعرضوا للرومى النذل وتركوه يمضى لحاله! ولم يكن هذا الأمر مستغرباً على زمن السلطان البيكيكى، الذى جعل رعايا الدول التى يخشاها أو التى يتقاضى منها المساعدات المالية فوق المساءلة وفوق الحساب، ولم يكن الروم وحدهم من يتمتعون بهذه الأفضلية، لكن الأمر وصل إلى رعايا دولة اَل مسعود، تلك المملكة التافهة الواقعة على خليج البيسان، والتى كان يحكمها مجموعة من قطاع الطرق واللصوص. وسريعاً وصل خبر المرأة إلى السلطان البيكيكى الذى كان معتل المزاج بعد هروب المطجن البصاص وعجزت شرطة الولاية عن الإمساك به. عرف السلطان ما كان من أمر المرأة واستغاثتها به، فجمع أركان حكمه يطلب منهم المشورة، خاصة أن الخبر قد شاع فى المدينة والناس صارت تنتظر ما يفعله السلطان لنصرة المرأة التى تعرضت للإهانة من الرومى ومن بصّاصى السلطان. بالغ بعض الأهالى فى أمانيهم، فتصوروا أن البيكيكى قد يجهز جيشاً ويخرج للقاء قشتالة ولا يعود حتى يهدم طليطلة حاضرة ملكهم فوق رؤوس ساكنيها ولا يُبقى حجراً على حجر فى المدينة! اجتمع السلطان بوزرائه ومستشاريه، ثم خرج على الناس خطيباً وكانوا فى انتظاره. قال السلطان إن التحقيقات أثبتت كذب المرأة وافتراءها، وأنها اعتادت السلوك المعوج ورمى الناس بالتهم، ونفى عن الرومى أن يكون قد تعرض لها، ثم أضاف أنها قامت بالتعدى على رجال العسس وضربت نفراً منهم، لهذا فقد أمر بجلدها مائة جلدة ثم حلق شعرها وتجريسها بإركابها حماراً بالمقلوب والطواف بها فى طرقات المدينة ودروبها لتكون عبرة لمن يستغيث بالبيكيكى دون حق! فى الوقت الذى كانت فيه المرأة تهان وتدفع ثمن بلادة السلطان وهوانه على الآخرين، كان المطجن البصاص يسعى فى درب الذئاب كما المجنون بحثاً عن محبوبته التى هربت من كهف العفريت، وتسللت خارجة تضرب فى الفيافى على غير هدى. أخذ المطجن البصاص فى تتبع خيط الدماء التى أبصرها على الأرض حتى وصل إلى صخرة كبيرة، وجد البندرية تجلس إلى جوارها متقطعة الأنفاس خائرة القوى، فلما رأته بكت بحرقة، ثم استسلمت له يحملها بين ذراعيه القويتين ويمضى بها عائداً إلى الكهف. قدم المطجن إليها الطعام والشراب فرفضت وهى تنأى عنه وتجلس القرفصاء مرتجفة من شدة الخوف وتنظر إليه لا تدرى ماذا ينوى أن يفعل بها. حاول أن يطمئنها، وقال إنه ما فعل فعلته التى وضعت حياته فى مهب الريح إلا لأجل الفوز بها، وحكى لها عن اتفاقه مع أخيها همام على الزواج بها فور أن يقضى مهمته ويقتل المغنية إيزابيلا، لكن الحظ السيئ جعله يسقط فى يد الشرطة ويقف أمام المحكمة مع همام، ثم اتسعت أساريره وهو يذكر لها أن القدر ساعده على الهرب لحكمة، هى أن يتم تنفيذ الاتفاق وأن يتزوج من أميرة أحلامه وأحلام الشباب فى الولاية كلها. رفضت البندرية قصته حول اتفاقه مع همام بشأنها وقالت إن أخاها لا يمكن أن يفعل هذا بها، ولما كانت تعلم عن المطجن طمعه وحبه للمال فإنها لجأت إلى محاولة إغرائه ووعدته بأنه إذا أطلق سراحها وتركها تعود لأهلها فإنها ستدفع له ما يجعله غنياً بقية حياته. ضحك المطجن لسذاجتها وقال لها إنه لا يحتاج إلى مالها لأنه يملك كنزاً مخبوءاً لا يفصله عنه سوى بضعة أيام، وأن الدنيا قد ضحكت له بعد عبوس. قالت البندرية، تستحلفه، إن أباها سيموت كمداً إذا طالت غيبتها أكثر من ذلك وطلبت منه أن يرحمها ويرحم شيخاً كبيراً هو بمثابة والده، ويكفيه ما فعل بأخيها بعد أن اعترف عليه وهدم حياته. لم تُجدٍِ توسلاتها، فطلبت منه فى محاولة أخيرة أن يطلبها من أبيها كما يليق بمن كانت مثلها، ووعدته بأنها ستوافق وسوف تتزوجه. لمعت الفكرة برأس المطجن ومنحته سعادة للحظات، لكنه عاد للواقع سريعاً وقال لها: «لا تحاولى خداعى، لقد فزت بك واستحققتك عن جدارة وفعلت كل المطلوب منى، وبقى عليكم الوفاء».