السؤال الذى بدأ به الدكتور خالد منتصر كتابه «فوبيا العلم»: «هل نحن أمة تكره العلم وتخاف منه وتشمت فيه؟» لم يكن مصدر اندهاش أو استنكار منى أو إحساس بالمبالغة على الإطلاق، فما يقوله ويشير إليه فى كتابه يسير نحو الهدف نفسه الذى طالما كتبت من أجله فى مثل هذه الموضوعات الشائكة، من أجل الوصول إلى أمة تحترم العلم وتبجل العلماء، وتتصدى للخرافة، وتكشف الدجالين لقد كانت كلمة «اقرأ» هى أول ما نزل من القرآن على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، والعلم من صفات الذات الإلهية التى أسبغها رب العزة على نفسه فى مواضع كثيرة، وهو من الصفات التى منحها الله للأنبياء فقال تعالى عن سيدنا موسى: «آتيناه حكماً وعلمًا» (القصص - 14)، وعن سيدنا داود وسيدنا سليمان: «ولقد آتينا داود وسليمان علماً وقالا الحمد لله الذى فضلنا على كثير من عباده المؤمنين» (النمل - 15)، وكانت رسالته عز وجل لنبيه ورسوله محمد لا بد أن تنزل عليه وهو أمىٌّ لا يقرأ ولا يكتب حتى لا يشكك فيها أحد، لأن المعجزة الخالدة فيها هى القرآن، ومع ذلك فقد أدبه ربه وعلمه، وأعلى من قيمة العلم فى منهجه ورسالته، فكلمة «علم» ورد ذكرها بمشتقاتها فى أكثر من 900 موضع فى القرآن الكريم، وهناك 102 حديث شريف صحيح تحث على العلم والتعلم، فيقول صلى الله عليه وسلم: من سلك طريقا يلتمس به علما، سلك الله به طريقا من طرفى الجنة. وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضاً لطالب العلم، وإن طالب العلم يستغفر له من فى السماء والأرض، حتى الحيتان فى الماء، وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر النجوم، وإن العلماء هم ورثة الأنبياء، وهم لم يورثوا دينارا ولا درهما، إنما أورثوا العلم، فمن أخذ به أخذ بحظ وافر، ويكفى لإظهار فضل العلماء على غيرهم أن المولى عز وجل قد اختصهم بخشيته حين قال: «إنما يخشى الله من عباده العلماءُ» (فاطر - 28)، وقيل لابن المبارك: إلى متى تطلب العلم؟ قال: حتى الممات لعل الكلمة التى تنفعنى لم أكتبها بعد. من أجل كل هذا سعدت أيما سعادة بإصدار كتاب «فوبيا العلم»، الذى صدر عن سلسلة كتاب اليوم لمؤسسة أخبار اليوم، الذى ترأس تحريره الكاتبة الصحفية اللامعة والمتألقة نوال مصطفى، التى أحيت هذه السلسلة بمجموعة من العناوين والكتاب المتميزين، والتى تجيد اختيارهم، وكان آخرها هو هذا الإصدار المهم للإعلامى المتميز والطبيب صاحب العقلية العلمية المحترمة د.خالد منتصر، الذى يؤكد فى كتابه أننا نعانى من مرض فوبيا العلم، وإلا فكيف نفسر سيطرة الفكر الخرافى على حياتنا؟ وما هو سر تغلغل الأوهام والأساطير فى جنبات مجتمعنا ومؤسساتنا حتى ما يحمل منها لافتة مؤسسة كذا العلمية أو التكنولوجية، لقد أصبحنا شعباً يدمن الخرافة حتى النخاع، بل يكون فى قمة الانبساط وهو مضحوك ومنصوب عليه.. نصابون يبيعون ويروجون لأعشاب سامة ربما تباع على الأرصفة وفى بعض المحال دون أى رقابة صيدلية أو طبية، ويروجون لها فى الفضائيات، والناس تتهافت عليها، ويجعلون من يتاجر بها مليارديرات، فى الوقت الذى تظل فيه قوانين تتعلق بالموت والحياة مثل قانون زراعة الأعضاء حبيسة فى أدراج مجلس الشعب لمدة تزيد على ربع القرن، فى حين تصدر قوانين أخرى فى ربع ساعة. ويرى د.خالد منتصر أن الذين يتاجرون بالدين ويتحدثون عبر وسائل الإعلام المختلفة عن أن الزلازل والبراكين إنما هى غضب من الله، ويعترفون بزواج الإنس من الجان، ويؤلفون كتباً للعلاج يضعون عليها أسماء كل من هب ودب من الذين ليس لهم علاقة بدراسة الطب - إنما هم تجار سوبر ماركت الإعجاز العلمى الذين ينتظرون إنجازات الغرب حتى ينسبوها إلى أنفسهم، ويقدموها إلينا فى «سيلوفان دينى»، هؤلاء الذين يبدون الشماتة والفرحة عندما تسقط سفينة فضاء غربية وتحترق، ومن خلال حوار خيالى افتراضى رائع، وعصف ذهنى مع مؤلفات الفيلسوف العظيم الراحل د.زكى نجيب محمود نتعرف من خلال منظاره السديد النافذ على قيود ومعوقات الفكر العربى التراثى ؟ فالقيد الأول فى رأى فيلسوفنا الكبيرهو أن صاحب السلطان هو صاحب الرأى وليس صاحب رأى، أما القيد الثانى فهو سلطان الماضى على الحاضر، فالقديم له رهبة وسحر وجلال، ولكن أن يتحول الإعجاب إلى تقديس فتلك هى المشكلة، أما القيد الثالث فهو تعطيل القوانين الطبيعية بالكرامات والبحث عن المعجزات. إننا مازلنا فى مرحلة السحر لا العلم - كما يقول د. زكى نجيب محمود - فالسحر والعلم كلاهما محاولة لرد الظواهر إلى عللها وأسبابها، غير أن الساحر لا يقلقه أن يرد الظاهرة إلى علة غيبية ليس فى وسع الإنسان أن يستحدثها أو يسيطر عليها، أما العالم فهو لا يقر عينا إلا إذا رد الظاهرة المحسوسة إلى علة محسوسة، كذلك عندما يقف الساحر والعالم إلى جانب مريض، نجد الأول يربط الظاهرة المرضية بالجن والعفاريت والسحر، أما الثانى فيربطها بجرثومة معينة، وبينما يصبح الطريق مفتوحا أمام العالم للبحث عن وسيلة يقتل بها الجراثيم، ترى الطريق مغلقا أمام الساحر ولا يجد وسيلة لمغالبة العفاريت إلا بالبخور والأحجبة، فنحن بهذا المنهج، أو بالأصح اللامنهج، ما زلنا فى مرحلة السحر لم نبرحها بعد. لقد استمتعت حقاً بقراءة هذا الكتاب الذى يتعامل مع الكثير من الخرافات التى يروج لها الكثيرون من باب أكل العيش بمبضع جراح، وشجاعة تحترم عقلية القارئ، حتى وإن اختلف البعض مع بعض ما جاء فيه.. إنه حقًا إضافة محترمة للمكتبة العربية العلمية. [email protected]