على خريطة برامج المحطات التليفزيونية الفضائية، خاصة الإخبارية منها، برنامج ثابت، يحمل فى كل قناة منها، عنواناً مختلفاً، ولكنها تتطابق من حيث الشكل والمضمون، فمقدم البرنامج يطرح على المشاهدين سؤالاً يتعلق بقضية أو مشكلة أو أزمة تشغل اهتمام الرأى العام.. ويتلقى منهم اتصالات هاتفية تحمل إجاباتهم على هذا السؤال، وهو أسلوب يشيع كذلك فى برامج أخرى، يستضيف خلالها مقدم البرنامج فى الاستوديو عدداً من المتخصصين فى موضوع ما، ليتحاوروا حوله، وتتخلل المناقشة، اتصالات تليفونية من المشاهدين، يعلقون على آراء هؤلاء المتخصصين، أو يبدون آراء أخرى فى القضية محل النقاش. وتستند الفضائيات التى تقدم هذا النوع من البرامج إلى مبرر مهنى معلن، يقول إن حرية الإعلام لا تتحقق إلا إذا كان من حق كل مواطن أن يبدى رأيه فى القضايا العامة بحرية دون أى رقابة مسبقة، فضلاً عن أن ذلك يخلق رابطة بين المشاهد والقناة التى يفضلها.. كما تستند إلى حافز تجارى قد يخفى على الذين يكتفون بالاستماع إلى هذه البرامج دون المشاركة فيها، فما يدفعه المشاهد ثمناً للوقت الذى تستغرقه المكالمة الهاتفية، بما فى ذلك بالطبع ثمن وقت الانتظار، الذى يكون عادة طويلاً يتم توزيعه بالعدل والقسطاس بين شركة الاتصالات والقناة الفضائية، طبقاً لاتفاق بينهما يشمل كذلك اتفاقاً على ثمن الدقيقة يبلغ أضعاف ثمنها فى الاتصالات العادية. وصحيح أن حرية الإعلام، لابد أن تشمل حق كل مواطن فى أن يبدى رأيه فى الشؤون العامة، ولكن ذلك يفترض أن يكون لهذا المواطن أولاً «رأى» كونه لنفسه عبر جهد بذله لمعرفة الحقائق المتعلقة بالموضوع، وهو ما لا يتحقق فى معظم هذه الاتصالات، التى لا تعبر فى الغالب إلا عن انطباعات فجة، وتستند إلى معلومات غير دقيقة، أو أخبار كاذبة، لا يُعْنَى مقدم البرنامج عادة بتصحيحها لصاحبها، ولمن يستمعون إليها، إما لأنه ليست لديه معلومات كافية عن الموضوع الذى يطرحه للنقاش، أو لأن له، أو للقناة التى يعمل بها، مصلحة فى إشاعة هذا النوع من الأكاذيب، كما لا يعنى بالتدخل لتنبيههم إلى ضرورة الالتزام بالتقاليد المهنية، التى تقضى بمناقشة الأفكار والسياسات دون التطاول على الأشخاص، ولفت نظرهم إلى الحديث بلغة مهذبة، تتوقى الشتائم واللغة السوقية لأنهم يتحدثون فى وسيلة إعلامية يستمع إليها ملايين المشاهدين وليسوا فى جلسة سمر، أو قعدة مزاج فى مقهى أو خمارة أو مَحْشَشَة!. وفى مرات ليست قليلة، اتصل أشخاص مخمورون بهذا النوع من البرامج ليوجهوا ألفاظ غزل جنسى فاحش لمذيعات فضليات ممن يقدمنها، استمع إليها ملايين من الناس على الهواء مباشرة، وفى مرات أخرى خططت بعض الفصائل السياسية للاتصال بشكل منظم بها، للترويج عبر هواتف الفضائيات لأفكارها السياسية، أو للثأر من المختلفين معهم فى الرأى، كان من بينها الحملة التى نظمها نشطاء من حزب التحرير الإسلامى، كانوا يتصلون هاتفياً بكل البرامج التى من هذا النوع، وسواء كان الموضوع يتعلق بأسعار البطاطس، أو بأزمة الطاقة، أو بالبحث عن علاج لأنفلونزا الطيور، فإن الحل يكمن فى رأيهم فى إعادة إحياء الخلافة الإسلامية، والحملة التى نظمتها منذ سنوات جماعة الأحباش فى لبنان للتطاول على فضيلة الشيخ القرضاوى، عبر الاتصال هاتفياً ببرنامج «الشريعة والحياة» بسبب خلافات فقهية معه، مما اضطر البرنامج إلى التوقف عن تلقى أسئلة المشاهدين!. وخلال الأسابيع الثلاثة الأخيرة، ومنذ بدأ العدوان الإسرائيلى على غزة، أصيبت بعض القنوات الفضائية العربية خاصة ذات التوجه الإسلامى المتعاطف مع حركة حماس، بحالة من الجنون المطبق، أفقدتها رشدها، وحولتها إلى طبعة هابطة من إعلام التعبئة الذى لا يتعفف عن الكذب، ويفتقد لأى مهنية فى رصد الوقائع والتعليق عليها، وأصبحت ساحة مفتوحة للشتامين المحترفين والهواة الذين لايزالون تحت التدريب، يحرضون على الحروب الأهلية داخل كل الأقطار العربية، والانقلابات العسكرية، والحرب الإقليمية الشاملة، التى يمكن أن تؤدى إلى تدمير كل العواصم العربية، كما دمرت غزة، ولا يقدمون مع ذلك رؤية عقلانية وعملية وممكنة التنفيذ تنقذ أهل غزة من الهول الذى يعانونه، ونعانيه معهم. وكان طبيعياً أن تتصدر البرامج التى تذيع اتصالات المشاهدين هذه الحملة من الشتائم الإسلاموية، لتتولى نيابة عن المسؤولين فى القناة، بث أقلها تهذيباً وأكثرها كذباً، ليكتفى مقدم البرنامج بتوجيه أسئلة موحية للمتصلين، تحدد لهم مجالات الشتائم المطلوبة. فى برنامج من هذا النوع بعنوان «الرأى الحر» تعرضه قناة «الحوار»، وهى قناة إخوانية تبث من «لندن» ويديرها تونسيون ويقدمه مذيع اسمه «الأخ صالح»، اتصل مواطن، قال إن اسمه «شريف» ويتصل من باريس، وأنه يريد أن يقول إن الخيانة بدأت من حرب أكتوبر 1973، وأنه كان شاهداً عليها بحكم مشاركته فى هذه الحرب، فسأله الأخ صالح: هل أنت مصرى؟ فقال الأخ شريف: أنا تونسى ومعى الجنسية الفرنسية، وهو ما كانت تشير إليه بوضوح لهجته، وأضاف يقول إنه كان ضابطاً فى الجيش المصرى أثناء حرب 1973، وأن مقره كان فى ميناء دمياط وأن رئيس غرفة العمليات أيامها هو حسنى مبارك، وكان يحدث أن ضفادع بشرية إسرائيلية كانت تظهر فى الميناء، فكان يتصل بحسنى مبارك تليفونياً فى غرفة العمليات ليبلغه بذلك، فلم يكن يهتم أو يتخذ أى إجراء، وأضاف أنه بصفته خبيراً عسكرياً لديه وقائع كثيرة من هذا النوع على استعداد لروايتها للمشاهدين!. والغريب أن الأخ صالح لم يتنبه إلى أن الرجل يكذب عليه، أو يتعمد السخرية منه، وأن الواقعة التى لا يصدقها عقل طفل صغير، ما كان ينبغى أن تفوت على ذكائه أو يسمح له ضميره الإسلامى بأن يتركها تمر دون تصحيح، بل طلب منه بمنتهى الجدية أن يترك رقم هاتفه فى الكونترول وسوف يتصل به.. وهكذا يكون الإعلام الإسلامى وإلا فلا وصلى الله وسلم على النبى الذى قال: إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق.