على الطريق المؤدى إلى رفح المصرية.. وكلما اقتربت النقطة الحدودية الفاصلة بين مصر وفلسطين تتلاشى معالم المدينة لصالح مظاهر البداوة، لكن ثمة شيئاً واحداً يربط بين الاثنتين، صورة تتكرر كل 20 كيلومتراً تقريبا، وهى للرئيس مبارك.. الصور إما على منشآت تم إنجازها فى عهد الرئيس ونسبت إليه مثل كوبرى السلام أو كوبرى مبارك أو كوبرى الفردان- وهى الأسماء الثلاثة للكوبرى حسب اللافتات الإرشادية - أو موضوعة على لافتات عملاقة يهنئ فيها أصحابها الرئيس على خطواته وقراراته الصائبة، فضلا عن لافتات المبايعة التى تحمل صورة الرئيس وشعار الحزب الوطنى، الذى أطلقه عام 2005 مع الدعوة لتغيير الدستور. لا شىء يميز هذه المدينة، بل لا شىء يشير إلى أنها مصرية، فمظهر سكانها ولهجتهم وملابسهم وحتى بيوتهم كلها أشياء تقول إنهم فلسطينيون أكثر من كونهم مصريين، لكن ثمة شيئاً مشتركاً بينهم وبين أبناء القاهرة وكل المحافظات المصرية.. يتوحدون تحت شعار واحد وهم واحد هو الهم الفلسطينى وشعار انصروا غزة...التمييز بين المصرى والفلسطينى فى هذه المدينة لا يتم إلا عن طريق توجيه سؤال مباشر: إنت من هنا ولا من هناك؟..وغالبا ما يأتى الرد: مفيش حاجة اسمها هنا وهناك..كلنا فى الهم عرب. الرحلة بالسيارة إلى رفح تستغرق حوالى 4 ساعات، أضف إليها ساعتين هما مجمل المدة التى تقضيها السيارة فى أكمنة المرور ونقاط التفتيش، فتصل المدة الإجمالية إلى 6 ساعات فى حالة استخدام كوبرى السلام، تزيد إلى ضعف هذه المدة عبر الطريق الصحراوى. ورغم أنه طريق هادئ نسبيا، فإنه يعج بالسيارات العملاقة التى تحمل أطنان المساعدات الغذائية والأدوية للفلسطينيين فى غزة، وتتراص عند مدخل العريش وبعده عند نقطة تفتيش بالوظة، فإذا اجتازتها دخلت رفح بسلام، ولا يتبقى أمامها سوى عبور المعبر، وهو شأن يخرج عن إرادة أصحاب هذه القوافل الذين يرفعون شعاراتهم وأعلام دولهم على السيارات، ويخرج أيضا عن إرادة مصر، ويتوقف على موافقة إسرائيل. المشكلة الحقيقية التى تواجه هذه القوافل ليست فقط فى مشقة الطريق ولا نقاط التفتيش الكثيرة، ولكن فى احتمال رفض دخول القافلة عند المعبر، حيث لا تسمح إسرائيل سوى بقوافل الأدوية والإغاثات الطبية، أما الأغذية فيتم رفضها.. هنا يقف أصحابها أمام المعبر يوزعون ما بها من مواد غذائية على الموجودين أمامه، وهم إما قوافل جديدة أو إعلاميون ووكالات أنباء أو ناشطو إغاثة دوليون، فضلا عن الفلسطينيين المقيمين فى رفح وأهالى المدينة من المصريين. مصطفى سالم أحد المصريين المتواجدين فى المعبر، ليس تعاطفا فقط، لكن للعمل أيضا، حيث يعمل شيالا أمام المعبر يساعد القوافل على تفريغ حمولتها للتفتيش ثم تعبئتها مرة أخرى بعد الموافقة عليها، سالم يؤكد أن القصف الإسرائيلى هذه المرة أقوى من المرات السابقة، فقبل 3 سنوات عندما بدأ العمل فى المعبر، لم يكن الوضع مأساويا مثل هذه الأيام: أول مرة أشوف هذه الحالة، عشان كده بساعد بتوع القوافل وأوزع الأغذية اللى مش بتدخل على الناس قدام المعبر، ده غير شغلى الأصلى، وكمان بساعد الأجانب إنهم يوصلوا للأهالى ويسمعوا معاناتهم.. أصل ده واجبنا تجاه إخواننا فى غزةوفلسطين، وطالما مش عارفين نشيل سلاح ونروح نحررهم، يبقى على الأقل نساعدهم على قد ما نقدر. سالم لا تخيفه أصوات الانفجارات التى يسمعها من حين لآخر، ليس لشجاعة يدعيها، لكن لأنه اعتاد هذه الأصوات، بل ألفها: صوت الإنفجار مش بيخوفنى، لكن بيقلقنى لأنى لما بسمعه ببقى متأكد إنى هسمع بعده صوت عويل وصراخ على ضحايا هذه القنبلة أو القذيفة اللى انفجرت، وساعتها بحس بالعجز، لأنى مش عارف أساعد، ومش عارف كمان أسد ودنى وأعمل مش سامع..حسبى الله ونعم الوكيل. الحديث عن الأنفاق دائما ما يكون حديثاً هامساً لا يتم أمام أعين المارة، ولا يحدث مع غريب، حسب تأكيد سالم: الشرطة عينها صاحية وبتراقب اللى بيتكلم فى الموضوع ده، والمخبرين فى كل حتة، لأننا إذا جزمنا بوجود أنفاق يبقى بنبلغ عن نفسنا وبنقول لهم تعالوا اضربونا، وبصراحة أنا بسمع زى غيرى عن الأنفاق دى لكن والله العظيم ماشفتش حاجة من دى.. هو اللى بيعمل حاجة بيقول أنا بعمل؟ ولا هما عايزين يعملوا معانا زى العراق، يدخلوا عشان يدوروا على أنفاق ويبهدلونا وبعدين يعتذروا ويقولوا معلش..إحنا ساعتها مش هنعرف نعمل معاهم زى الزيدى ما عمل وضرب بوش بالجزمة، لأننا وقتها مش هيكون معانا ثمن الجزمة. فى المدينة الهادئة إلا من أصوات الانفجارات -على الجانب الآخر من المعبر - لا توجد أى أنشطة اقتصادية، فالأهالى يعتمدون على أنفسهم فى إنتاج الخبز والألبان، أما الفاكهة، فلا يعرف أهالى رفح المصرية سوى «الكلمنتينا» وهى نوع من أنواع الموالح أصغر من اليوسفى وأكبر من الليمون، ويتميز بالمذاق الحلو، ويكاد يكون أجمل ما فى المدينة، والشىء الوحيد الذى يحمله الزائر كذكرى، فضلا عن الذكرى التى لا تنمحى للسماء وهى مضاءة بأنوار القذائف والصواريخ. المنازل التى تأخذ شكل الفيلات من طابق واحد لا تنم عن ثراء، بقدر ما تدل على بساطة العيش، لكن الوضع فى منزل الشيخ عبدالستار الغلبان شيخ الفلسطينيين فى رفح المصرية مختلف، فالمنزل رغم بساطته يدل على ثراء صاحبه الذى يمتلك عقارات وأراضى متعددة فى القاهرة، لكنه يصر على الإقامة فى رفح إلى جوار إخوانه الفلسطينيين، ومن هنا كان لمنزله أهمية خاصة، فقد حوله إلى بيت لكل الفلسطينيين فقصدته القنوات الفضائية واتخذت من منزله مكانا ملائما لبث الأخبار، التى تدل على الوضع فى المنطقة. بطول حائط كامل فى منزله وضع الغلبان خريطة عملاقة لفلسطين القديمة، مؤكدا أنها الخريطة الباقية لفلسطين يورثها كما ورثها، ولا يعترف بالخرائط الحديثة، إذ يرى أنه مهما طال الزمن أو قصر، ستعود فلسطين إلى حدودها القديمة: الخريطة دى محفورة فى وجدان كل فلسطينى وبنحفظها لأولادنا ومنذ جئت إلى مصر قبل 30 عاما، بعد القبض على وسجنى فى السجون الإسرائيلية، حيث حكم على بالسجن 25 عاما، وهبت نفسى لخدمة الفلسطينيين فى رفح المصرية ورغم أننى من أبناء فتح، لكن كل الفتحاوية تحت أمر حماس فى حربها ضد الإسرائيليين.. إسرائيل لا تريد الأرض فقط، لكنها تريد أيضاً طرد الفلسطينيين من أرضهم، لذا ضربوا الحصار على غزة، لكن كل الفلسطينيين ينتظرون الشهادة فى غزة، وكل بيت فلسطينى داخله رجل وامرأة مقاتلان، ينتظران العدو بأسلحتهما التى لا تزيد على حجارة. الغلبان يؤكد أن الفلسطينى لا يبكى على الحياة ولا يخاف الموت: أهلاً وسهلاً به فى أى مكان.. نحن لا نريد أكثر من الأرض، لذا أؤيد قرار الرئيس مبارك عدم فتح المعابر فى وجه الفلسطينيين، لأنه إذا خرج فلسطينى من بلده هارباً من العدو على بلد آخر ضاعت القضية وراحت فلسطين للأبد.