ننسى فى غمرة الحزن على غزة، أن لدينا فى الداخل أموراً لا يجوز أن ننساها، لأنها باقية معنا، بينما النار المفتوحة على قطاع غزة، سوف تخمد غداً، أو بعد غد.. وننسى ونحن منشغلون جزئياً هذه الأيام بمواجهة تداعيات الأزمة المالية العالمية علينا، أن هذه بدورها أزمة طارئة سوف تزول هذا العام، أو حتى العام الذى بعده، ولكن هناك فى المقابل بوادر أزمات مزمنة أخرى، لا يليق أن نغفل عنها لحظة، فى كل الأحوال! وننسى، للمرة الثالثة، أننا ونحن نتحدث عن كيان اسمه المجلس الأعلى للطاقة على سبيل المثال وكيف أن عليه أن يحسم أمره، خلال أيام، مع تراخيص مصانع الحديد الجديدة، وما إذا كان سوف يمدها بالطاقة المطلوبة، أم لا ننسى، فى هذه الزحمة من الأحداث، والقضايا، والمجالس العليا وغير العليا، أن هناك مجلساً أعلى، هو الأهم على الإطلاق، لم ينشأ بعد، لأسباب ليست مفهومة ولا واضحة! إننا بلد يعيش فيه 80 مليون مواطن، ونحن بلد موارده الطبيعية محدودة، كما أن مواردنا معروف أولها من آخرها، وقد عرف العالم مصر على مدى تاريخها، باعتبارها بلداً زراعياً فى الأساس، وكانت ولاتزال تروى أرضها بالطريقة التى رواها بها الفراعنة من سبعة آلاف عام، وهى طريقة الرى بالغمر، التى لا يعرفها، ولا يعمل بها أى بلد فى الدنيا! مياه النيل بالنسبة لنا، لا تقل أهمية عما يمثله البترول فى دول الخليج، ومع ذلك نتعامل معها فى كل يوم، بما يؤكد أننا نبددها ولا نحافظ عليها، وإذا كان هناك مجلس أعلى يجب أن ينشأ اليوم بل ينشأ من الأمس، فهو المجلس الأعلى للمياه، وهو الذى سوف يكون عليه أن يحدد الطريقة المثلى التى علينا أن نتصرف بها، مع هذه الثروة التى بين أيدينا، ولا نعرف للأسف، قيمتها ليس الآن فقط، وإنما مستقبلاً أيضاً، حين يأتى وقت، سوف تكون منابع المياه فيه كما يقول الدارسون والمتخصصون موضع نزاع، وحروب، وقتال بين الدول! وإذا كان الدكتور محمود أبوزيد، وزير الرى، واحداً من العلماء الكبار فى تخصصه على مستوى العالم كله، فما ننتظره منه أن يبادر هو بوضع أساس قوى لمجلس أعلى من هذا النوع، فالوزير تحديداً، يعرف قبل غيره، أهمية وجود مثل هذا المجلس، بل وحتمية إنشائه وضرورته، كما أن إنشاءه ليس نوعاً من الترف، ولن يكون فى أى يوم! صحيح أن الماء فى أرضنا ليس ثروة ناضبة بطبيعتها، كما هو الحال بالنسبة للبترول أو الغاز مثلاً، ولكنه، على جانب آخر، معروفة مصادره، وكمياته المتاحة منه لنا، والتغيرات التى يمكن أن تطرأ عليه، نقصاً أو زيادة... كل هذا يحفظه عن ظهر قلب، المتخصصون الكبار فى هذا المجال، من أول الدكتور رشدى سعيد، وانتهاء بأصغر دارس أو متخصص فيه، ولم يعد مقبولاً، تحت أى ظرف، أن يستمر الرى، على الطريقة التى يجرى عليها الآن، ولا صار محتملاً أن نواصل تعاملنا مع الماء كثروة، على نحو ما كنا نفعله، ولانزال.. ولابد.. لابد من مجلس أعلى حقيقى يختص بهذا الشأن، بحيث يحدد بالضبط العقوبات الواجبة تجاه الذين يمارسون السفه فى استخدام المياه، ويحدد ما إذا كان الماء سوف يصل لمستهلكيه بثمن أو بغير ثمن، ويحدد كذلك ما إذا كانت هذه الترعة سوف تظل مكشوفة، وما إذا كان ذلك الفرع من النيل سوف يكون عليه أن يتغطى.. ويحدد.. ويحدد.. إلى آخر ما يمس ثروة الماء مساً مباشراً، بينما نعيش نحن فى غفلة كاملة عما يجب أن يتم فعلاً فى هذا الاتجاه! لدينا بترول يتدفق فى النيل، من جنوبه إلى شماله، ولكننا لسنا على وعى مفترض أن يكون فينا، ونحن نستخدم كل قطرة فيه! ويظل الدكتور أبوزيد، بحكم وعيه الحقيقى بأبعاد المسألة، هو الأمل الوحيد، ليس فقط فى أن يقوم مجلس بهذا الشكل على يديه، وإنما أيضاً بأن يمارس المجلس عمله وفق تقاليد وأصول، توضع، ثم تبقى، وتستمر!