العقود الستة التى مضت منذ إعلان «دولة إسرائيل» على أرض فلسطين، هى مجرد لحظة فى عمر الزمن المديد، كغفلة عين وانتباهتها قياسا إلى ما مرت به البشرية من حوادث ووقائع، مفعمة بالأوجاع والمسرات. وهذه المساحة الزمنية الطويلة عامرة بدول ودويلات وإمارات وممالك، سادت حتى طاولت أعناقها السحب، ثم ذابت أو بادت أو أبيدت فلم يبق منها إلا بعض أطلال، وحكايات تروى. وفى المكان نفسه الذى تقام عليه «إسرائيل» وحوله أو جواره قامت فى القرون الوسطى أربع إمارات لاتينية أنشأها الفرنجة فى حملتهم الأولى على الشرق التى بدأت عام 1097م، وهى مملكة بيت المقدس وإمارات أنطاكية وطرابلس والرها، وتولى حكمها أمراء أوروبيون، وعاش بعضها نحو قرن ونصف من الزمن. وقامت جيوب استيطانية مماثلة للاستعمار الغربى فى أفريقيا، لكنها لم تلبث أن انهارت على أيدى الثوار. والأمر نفسه تكرر، بشكل لا لبس فيه، بجنوب أفريقيا، التى تمكنت الأغلبية السوداء فيها من أن تنتزع حقوقها التاريخية، وتهزم عنصرية البيض وصلفهم. وهذه المعطيات التاريخية ليست بعيدة أبدا عن «الكيان الصهيوني» ما دام مصرا على ممارسة أقسى درجات العنصرية مع غير اليهود، ودرجة سافرة من التمييز بين اليهود أنفسهم، حسب مسقط رؤوسهم. وظنى أن نقطة التحول فى مسار إسرائيل ومصيرها ستأخذ ثلاثة أشكال، الأول هو ألا تعد إسرائيل مجرد جيش تحيطه دولة، فتتخلى عن ممارسة أبشع أصناف العنف والكراهية ضد جيرانها، وضد أصحاب الأرض الأصليين من العرب، مسلمين ومسيحيين. وهذا لن يتم إلا حين تعجز إسرائيل عن هزيمة جيرانها، وتفقد مساندة أى قوة عظمى لها، مثل ما لاقته من عون إنجليزى وفرنسى، حين كان هذان البلدان يقودان العالم، وما تلاقيه اليوم من مساندة غير مسبوقة من الولاياتالمتحدة. وإذا كان اليهود لديهم قرون استشعار تجعلهم دوما سباقين إلى التحالف مع الأقوياء، فإن أى تغير فى بنية النظام الدولى لغير صالح أمريكا، وفقدان التعاطف مع الإسرائيليين الذى استفادوا منه بأقصى درجة ممكنة، يمكن أن يجعل تل أبيب فى موضع أقل بكثير من حيث «الصورة» و«القوة»، وهذا سيضطرها إلى رد ما سلبته من العرب، بعد طول عناد، لاسيما مع تعزز امتلاك المقاومة فى لبنان وفلسطين لقدرات صاروخية قادرة على الوصول إلى كل نقطة فى إسرائيل، ومثل هذا الوضع سيزيد من نزوح اليهود ويضعف هجرتهم إلى «فلسطينالمحتلة»، لاسيما مع التناقص التدريجى لعدد اليهود فى العالم بأسره. والثانى هو عدم قدرة إسرائيل على الاستمرار فى ممارسة العنصرية ضد مواطنيها العرب، مثلما حدث فى جنوب أفريقيا. وإذا أتت هذه اللحظة فى ظل تنامى القوة السكانية العربية، بحيث تشكل أغلبية الدولة أو نصفها، أو حتى أقل بنسبة ضئيلة، فإن فرص تراجع الأساس الدينى للدولة الإسرائيلية، الذى لا تشبهها فيه دولة بالعالم كله، ستكون كبيرة. وهذا معناه ببساطة أن يرجع اليهود جزءا من دولة عربية، كحالهم قبل الهجرة إلى إسرائيل. وهذا الخيار ليس مستبعدا حدوثه بعد عدة عقود إذا أخذنا فى الاعتبار تضاؤل معدلات مواليد اليهود مقارنة بالمسلمين والمسيحيين فى إسرائيل، وكذلك تعزز احتمالات تراجع معدلات الهجرة إلى إسرائيل وارتفاع معدلات النزوح منها، وهى مسألة بانت للعيان خلال الحرب التى خاضها الجيش الإسرائيلى ضد حزب الله. وقد بدأ العديد من المفكرين فى الغرب يقتنعون بأن حل الدولتين لشعبين غير عملى، وأن الأفضل أن تنشأ دولة واحدة تحوى اليهود والعرب معا، ومن أبرز هؤلاء المؤرخ الأمريكى اليهودى تونى جوت. أما الشكل الثالث فهو تآكل قدرات إسرائيل، بفعل ضغوط جيرانها عليها عسكريا، وتفسخ مجتمعها، وتصاعد نفوذ اليهود المعادين للصهيونية، وكذلك الذين يرون أن قيام دولة لليهود مخالف لتعاليم التوراة، إلى جانب تنامى الجدل فى الأوساط الأكاديمية الأمريكية نفسها عن العبء المادى والأخلاقى الذى تشكله إسرائيل على أمريكا، وتأكيد الأوروبيين فى استطلاع أجرى عام 2003 أن إسرائيل أكثر دولة خطرة على السلام فى العالم بأسره. عند هذا الحد قد يجد عدد هائل من الإسرائيليين أنفسهم راغبين فى الهجرة إلى أوروبا وأمريكا وغيرها، خاصة إن تمكن العرب من إنزال هزيمة عسكرية ساحقة بإسرائيل، حين تتمكن الشعوب العربية من ناصية القرار.