إذا جاز أن يختلف بعض الناس حول طرق حل هذه القضية بالغة التعقيد فما أظن أن منصفًا له دراية بحقائق التاريخ يختلف حول أن أصل هذه المشكلة وجذورها هو الاحتلال الإسرائيلى لأرض فلسطين وإزاحة شعبها عن وطنه وأرضه وغرس غرباء وافدين من أصقاع شتى فى العالم فى هذه الأرض الفلسطينية، استنادًا إلى أساطير توراتية ودعاوى تاريخية لا أصل لها. ولا أريد أن أغوص فى أعماق التاريخ لأدلل على ذلك، فحقائقه معروفة مكتوبة متاحة للجميع وحتى الأساطير التوراتية نفسها ظهر أخيرًا ما يكذبها، فضلاً عن تناقضها مع بعضها. وقد أكون محتاجًا لسرد هذه الوقائع التاريخية لو أننى كنت أخاطب جمهورًا غير عربى وغير مدرك لهذه الحقائق التى تحيط به وترهق فكره ومشاعره. وإذا رجعنا فقط إلى التاريخ القريب نسبيًا منذ نهاية الحرب العالمية الأولى، وتقسيم أقاليم الإمبراطورية العثمانية وفرض الانتداب البريطانى على أجزاء كثيرة من هذه الإمبراطورية من بينها أرض فلسطين، ثم صدور وعد بلفور وبدء تسلل الهجرة الصهيونية إلى أرض فلسطين، ثم تصاعد تلك الهجرة حتى قبيل نشوب الحرب العالمية الثانية وقيام النازية فى ألمانيا واضطهاد اليهود وانتهاء الحرب بانتصار الحلفاء وهزيمة ألمانيا ومحاولة البحث عن ملجأ يؤوى بقايا ضحايا النظام النازى والاضطهاد الأوروبى للأقليات اليهودية، بصفة خاصة، فى ألمانيا، وفى غيرها، والاتفاق على أن يكون هذا الملجأ هو أرض فلسطين الموجودة تحت الانتداب البريطانى، وتزايد الهجرة فى أعقاب الحرب العالمية الثانية، وإقامة مستوطنات وكيبوتزات إسرائيلية على الأرض الفلسطينية حتى كان عام 1948، فإذا بقرار يصدر من الجمعية العامة للأمم المتحدة بأغلبية ضئيلة بتقسيم أرض فلسطين وإنشاء دولتين: دولة عبرية لإسرائيل ودولة عربية لفلسطين. ويرفض العرب قرار التقسيم ويعلنون حربًا على «العصابات الصهوينية» وتنتهى تلك الحرب نهاية بائسة بتكريس السيطرة اليهودية على ذلك الجزء من الأرض الفلسطينية الذى اقتطع لتقام عليه الدولة العبرية. ومنذ ذلك الوقت وحتى يومنا هذا يحدث التمدد الإسرائيلى يوميًا - بغير مبالغة - ففى كل يوم «يقضم» جزء من الأرض الفلسطينية ويضم إلى الدولة الصهيونية، حتى ينتهى الأمر بألا يبقى من فلسطين التاريخية أكثر من عشرين فى المائة من أرضها، وثمانون فى المائة من هذه الأرض اغتصب من أصحابه وضم إلى إسرائيل. وقامت حرب 1967 التى أدت إلى توسيع مساحة الاحتلال الإسرائيلى، حتى شمل إلى جوار أرض فلسطين التى احتلت بالكامل - مناطق شاسعة فى أرض مصر تتمثل فى شبه جزيرة سيناء ومناطق هضبة الجولان وبعض المواقع فى جنوب لبنان. وليس منكورًا أن الولاياتالمتحدةالأمريكية، التى خرجت من الحرب العالمية الثانية باعتبارها القوة الأولى فى العالم، كانت تقف بكل ثقلها وراء إسرائيل، سواء فى ذلك الميدان العسكرى بأنواع مختلفة من المدد والسلاح والمعونات المالية أو المجال الدبلوماسى بإيقاف كل قرار يصدر ضد إسرائيل بمقتضى حق الفيتو، الذى تتمتع به فى مجلس الأمن. ورغم فداحة كارثة 1967 فإن إرادة المقاومة والصمود لدى عبدالناصر والشعب المصرى رفضت الاستسلام لتلك الهزيمة المنكرة وبدأ الإعداد لإعادة بناء الجيش المصرى - بعد إزاحة الهواة عن قيادته - ودخلت مصر فى حرب استنزاف رائعة أرهقت إسرائيل ثم بنى حائط الصواريخ، وكان ذلك كله تمهيدا لذلك القرار التاريخى الذى اتخذه الرئيس السادات فى أكتوبر عام 1973. وكان من الممكن أن تنتهى هذه الحرب نهاية أفضل بكثير من نهايتها لولا تدخل أمريكا بسلاحها وعتادها تدخلا مباشرا على أرض المعركة، مما اضطر مصر إلى قبول قرار مجلس الأمن بوقف القتال. وعلى أى حال فقد انتهت الحرب وقد استعادت مصر أرض سيناء، وإن كان ذلك بقيود غلاظ ولكنها استعادتها على أى حال، وبقيت الجولان محتلة، كذلك احتلت القدس وسائر أرض فلسطين، وبقيت الحال على ما هى عليه حتى الآن مع حرص إسرائيل على إقامة المستوطنات على الأرض الفلسطينية والسعى نحو تهويد القدس تهويدا كاملا، وتمزيق الضفة الغربية تمزيقا يستحيل معه إقامة كيان فلسطينى موحد. وتم تسويق معاهدة أوسلو وأقيمت سلطة فلسطينية وجرى تسمية وزراء، وصدق البعض أن هناك سلطة فلسطينية، وأن هناك وزراء بحق، والأمر كله لم يخرج عن كونه نوعا من الإدارة المحلية. وجرت انتخابات أدت إلى أن أصبحت «غزة» تحت السيطرة الكاملة لمنظمة حماس التى أعلنت انفصال القطاع عن الضفة الغربية، وبدأت الأخطاء الفادحة تتوالى، وتتصاعد المأساة بالاحتراب بين المنظمتين الفلسطينيتين الكبيرتين فتح وحماس، وتجرى محاولات عديدة من مصر ومن المملكة العربية السعودية لمحاولة إعادة اللحمة إلى هذه الفصائل، ولكن كل المحاولات للأسف المر باءت بالفشل واستمر الصراع والاحتراب بين من لا يجوز لهم أن يختلفوا، وكان يتعين عليهم أن يقفوا كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا فى مواجهة الاستعمار الإسرائيلى الغاشم. وما أظن أن حرباً من حروب التحرير فى التاريخ الحديث شاهدت مثل هذا الانقسام بين من يفترض فيهم أنهم يواجهون عدواً شرساً يتربص بهم جميعاً ويذيقهم كل صنوف الهوان. والمشكلة الآن تتمثل فى أن الإسرائيليين يعرفون ماذا يريدون ويخططون له تخطيطاً محكماً وينفذونه بإصرار. وعلى الجانب الآخر، تقف الفصائل الفلسطينية ممزقة تتبادل الاتهامات وتبقى الأنظمة العربية عاجزة لا تقدر على شىء جاد غير الكلام الذى لا يسمن ولا يغنى من جوع. وينتهى الأمر بأن نعيش هذه المأساة الحزينة فى غزة: إسرائيل تعربد وتلقى بالحمم على الشعب الفلسطينى الأعزل فى غزة، وكل ما يملكه الفلسطينيون فى غزة هو بضعة صواريخ يطلقونها على بعض البلدان الإسرائيلية من حدود القطاع ويتوالى نزيف الدم بين الفلسطينيين حتى يقترب من خمسمائة شهيد، وأكثر من ألفى جريح. والمجتمع الدولى تجتاح شعوبه موجة غضب وتلتزم أنظمته الصمت الرخيص، ومجلس الأمن لا يستطيع أن يصدر قراراً بوقف المجزرة لأن الولاياتالمتحدةالأمريكية - الحليف الاستراتيجى لبعض الأنظمة العربية - تعطل كل قرار يدين إسرائيل بمقتضى ما لها من حق النقض «الفيتو». وبعض الإخوان فى حماس يرددون ما لا يحسن بهم أن يقولوه، هل من السياسة الحكيمة أن يهاجم البعض مصر فى هذه الظروف، وأن يظهر الصف العربى بهذا التمزق والعجز والهوان؟ ثم ماذا بعد؟ وإلى أين المسار؟ إن إرادة الصمود لدى الشعب الفلسطينى قوية رائعة، ولكن هذا وحده لا يكفى فى مواجهة الغطرسة الإسرائيلية وفى مواجهة المساندة الكاملة من جانب الولاياتالمتحدةالأمريكية وفى مواجهة الصمت الدولى. ما الحل؟ لا حل إلا فى أمور محددة، أولها أن تتوحد الفصائل الفلسطينية جميعاً، بحيث تصبح فصيلاً واحداً يعرف هدفه ويخطط له ويسعى نحوه خطوة خطوة، ولن يحدث ذلك إلا بعد تهدئة تلتقط فيها تلك الفصائل الأنفاس. ورب ضارة نافعة، فإن بوادر هذا الالتحام تلوح فى الأفق. وإذا حدث ذلك فإن الأنظمة العربية ستشعر بالخزى من موقفها المهين وستحاول بعض القوى الخيرة وبعيدة النظر أن تقرب بين المتباعدين. وعلى أى حال، فإنه إلى جوار التوحد الفلسطينى وإرادة الصمود والمقاومة، فإنه يتعين على الدول العربية، جميع الدول العربية التى لها علاقات دبلوماسية أو اقتصادية مع إسرائيل، أن تمارس كل وسائل الضغط الدبلوماسية والاقتصادية من أجل إشعار إسرائيل أن الجريمة البشعة التى ترتكبها لا يمكن أن تمر دون عقاب. كذلك فإنه يتحتم على كبار القانونيين العرب البحث فى ملاحقة إسرائيل عن جرائمها أمام المحاكم الدولية. وسيدرك العالم أن الشعب الفلسطينى الموحد المتلاحم له قضية يعرفها ويؤمن بها ويدافع عنها، وأن الدول العربية بدأت تبتعد عن الكلام والثرثرة، وعندئذ سيتغير موقف المجتمع الدولى. أما فى ظل وهم السلطة والمنصب، وفى ظل التشرذم الفلسطينى والانقسام الخطير المرفوض بين فتح وحماس وفى ظل الأوضاع العربية المهترئة لن يكون هناك مخرج. وإذا حدث ما ننادى به من توحد فلسطينى وتقارب وعمل عربى إيجابى، فإن الطريق سيفتح أمام حل كريم. ولعلى هنا أذكر بيتين لأمير الشعراء أحمد شوقى: يا ويحهم ركزوا لواء من دم يوحى إلى جيل الغد البغضاء ما ضر لوجعلوا العلاقة فى غد بين الشعوب مودة وإخاء والله المستعان