كنت فى استوديوهات «سكاى نيوز» البريطانية للتعليق على أحداث غزة عندما عقد رئيس الوزراء الإسرائيلى إيهود أولمرت مؤتمره الصحفى الأول بعد الهجوم على غزة، وكان إلى يمينه وزيرة خارجيته تسيبى ليفنى، وإلى يساره وزير دفاعه إيهود باراك. وكان تعليقى على المؤتمر ساعتها أن هذا المشهد هو أسخف ما رأيت فى حياتى، تعقيبا على كلام أولمرت عندما قال إن الهجوم على غزة كان ردة فعل على صواريخ حماس التى قتلت مواطنًا إسرائيليًا وجرحت آخر، فى الوقت الذى كانت فيه الصواريخ الإسرائيلية قد حصدت ساعة عقد هذا المؤتمر ما يقرب من مائتين من أرواح الفلسطينيين، وخلّفت أكثر من أربعمائة جريح. لم أر فى حياتى مشهدا أسخف من ذلك المؤتمر الصحفى الذى عقده رئيس الوزراء الإسرائيلى إيهود أولمرت، وإلى يمينه وزيرة خارجيته تسيبى ليفنى، وإلى يساره وزير دفاعه إيهود باراك. هذه (البجاحة) السياسية والفجور الدبلوماسى، يجب ألا يمرا مرور الكرام على الغرب إعلاما وساسة، فمن المعيب أن يكون مقتل إسرائيلى وجرح آخر نتيجة لصاروخ طائش قادم من غزة مبررا ومسوغا لتلك الحملة الإسرائيلية المسعورة الموجهة إلى شعب أعزل محاصر. مطب المساواة الأخلاقية بين الحدثين يجب ألا تقع فيه الذهنية الغربية، وإلا فقد الغرب ما تبقى له من رصيد أخلاقى عند العرب والمسلمين، هذا الرصيد الذى يتآكل أصلا يوما بعد يوم. المشهد فى غزة خطير جدا، وما قامت به إسرائيل لا يمكن تسميته إلا بالتخبط الاستراتيجى الهادف إلى زعزعة الأمن الإقليمى برمته. فأى عاقل أو دارس لقضايا الأمن يدرك أن موضوع انتصار إسرائيل على حركة مقاومة هو أمر مشكوك فيه فى أحسن الأحوال، وقد شهدنا ذلك بوضوح فى حرب إسرائيل على حزب الله فى صيف عام 2006. العدوان الشرس على غزة فى مشارف العام الجديد، سيجعل الشعب الفلسطينى برمته يقف خلف حركة «حماس»، وحتى الرئيس الفلسطينى محمود عباس نفسه لا يملك فى مواجهة هذا الموت والدمار سوى أن يقف فى معسكر «حماس»، مدافعا عن شعبه وأهله. الوقوف على الحياد فى مواجهة القتل غير المبرر هو انتحار سياسى للسلطة الفلسطينية فى رام الله، ولن تلجأ بالتأكيد إليه. فإذا كانت حكومة أولمرت لا تدرك ذلك، ولا تقدر انعكاسات هذا الهجوم على الداخل الفلسطينى، فهذا غباء مطلق.. وإن كانت تعلم فمعنى ذلك أن لديها النية المبيتة لإنهاء حكم محمود عباس، وليس حكم «حماس»، ووضع الشعب الفلسطينى كله تحت خانة «حماس». وبهذا تكون إسرائيل قد أثبتت للعرب، المعتدلين منهم والراديكاليين على حد سواء، أنها لا تريد السلام. التصعيد العسكرى الإسرائيلى على غزة لا يحاصر غزة فقط، وإنما يحاصر أيضا كل العرب المعتدلين، بشرا ومفكرين وقادة، الذين مازال لديهم أمل فى أن يعمّ السلام على المنطقة، وتطوى صفحة الحروب، وينهى مسلسل إراقة دماء الأبرياء كضحايا لها. ضرب غزة يمثل، أول ما يمثل إقليميا، إرباكا وإحراجا سياسيا للدولة الجارة الكبرى مصر، التى حاولت دائما أن تلعب دور المعتدل والوسيط فى هذا الصراع. فهل هدف إسرائيل هو إحراج دولة مثل مصر وإرباك قيادتها؟ إذا كان الأمر كذلك، فنحن نتحدث عن نوايا سيئة تهدف إلى زعزعة الاستقرار الإقليمى بمجمله، وليس عن حرب تقتصر فقط على حركة «حماس» أو «الجهاد الإسلامى»، كما أعلن قادة إسرائيل. التصعيد العسكرى الإسرائيلى الأخير لا يحرج مصر فقط، فأى دولة عربية وأى زعيم عربى، بعد هذا الهجوم، يستطيع أن يبرر لشعبه أى خطوة يقوم بها نحو السلام، فى الوقت الذى تحصد فيه الصواريخ الإسرائيلية أرواح الفلسطينيين بالمئات، وعلى الهواء مباشرة؟ من سيبادر ثانية ويمد يد السلام لإسرائيل، وهى تمد أطفال ونساء ورجال غزة بنيران الصواريخ والمدافع؟ إن ما تقوم به إسرائيل من إحراج لقوى الاعتدال فى المنطقة، سوف يسلم قيادة المنطقة بأكملها لقوى الراديكالية وقوى التطرف. الوضع جد خطير، وعلى قادة إسرائيل أن يتحملوا مسؤولياتهم أمام العالم كله خصوصا، أنهم يورطون منطقة حيوية من مناطق العالم فى كارثة استراتيجية قد تجعل اللهب يلتهم المنطقة برمتها. على الغرب أن يدرك هذه الحقيقة بدلا من الوقوع فى فخ الروايات الإسرائيلية التى لن يجنى العالم من خلفها سوى الكوارث.